IMLebanon

الجيش على كل الجبهات.. من يستهدفه؟

لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم السبعين على التوالي.

لم تصدح صرخة طليع الضباط المتخرجين:”أقسم بالله العظيم أن أقوم بواجبي كاملاً حفاظاً على علم بلادي وذوداً عن وطني لبنان”.

لم تتراقص قبعات المتخرجين في الهواء الطلق. غابت الضحكات وفرحة الأهالي وقرع الطبول. غابت البدلات البيضاء والمنصة الرسمية. لا رئيس يفرج عن السيوف ولا سيوف تتوج ضباطاً، بل إلى الميدان در.. ولبنان كله ميادين، من داخله المتشظي سياسياً واجتماعياً، إلى حدوده المهددة براً وبحراً وجواً بالخطرين الإسرائيلي.. والإرهابي.

سبعة عقود من عمر الجيش، أنتجت مؤسسة وطنية في زمن يفتقد فيه لبنان الى الدولة والمؤسسات، برغم كل السهام التي تعرضت وتتعرض لها، وبرغم الكثير من الاختبارات التي مرت وتمر بها، حتى أصبحت تفيض بعقيدتها الوطنية الراسخة والكادرات والمعنويات.. وتفضح الفراغ والعجز، بدليل أن “الجمهورية الثانية”، في ما يسمونه “زمن الوصاية” وبعده، استنقذت رأسها برئيسي جمهورية، انتقلا مباشرة من قيادة الجيش في اليرزة الى القصر الجمهوري في بعبدا، من أصل ثلاثة رؤساء.. والحبل على الجرار!

مرّ الأول من آب بلا عيد ولا احتفال، ليس بفعل طارئ أو مانع أمني خطير، بل لأن السياسيين لم ينجحوا إلا في ضرب المؤسسات والرئاسات وتعطيلها، ولذلك كان من السهل عليهم أن يلغوا الاحتفال بالعيد التاسع والستين للجيش!

مرّ الأول من آب، وكل عسكر لبنان تقريباً مستنزف على مساحة الخريطة اللبنانية في استنفار على مدار الساعة، يضعه على تماس مع فتائل مشتعلة في الأمن والسياسة، في العصبيات والمذهبيات، في الإرهاب بأنواعه كافة، ودائماً بالحد الأدنى من الإمكانات.

ولعل إلغاء الاحتفال بعيد الجيش، هذه السنة تحديداً، يطرح أسئلة سياسية تتجاوز الشكليات العسكرية لتطال كيفية تعاطي السياسيين مع المؤسسة العسكرية الجامعة.

في الخطابات، ثمة اسطوانة يومية، تضع الجيش في أعلى المقامات: مؤسسة الوحدة والإجماع والانصهار الوطني. حامية أمن اللبنانيين. الضامنة لعدم وقوع الفتنة والحرب الأهلية. السد المنيع بوجه الخطر الإسرائيلي. رأس الحربة ضد المشروع الإرهابي. خط الدفاع الأخير عن الدولة والكيان الخ….

هذه الخطابات جميلة، لكن عندما تحين لحظة الحقيقة، يعاقب الجيش بحرمانه حتى من مجرد الاحتفال بعيده لكي لا يمسّ تقليد تسلم السيوف من رئيس الجمهورية وحده بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة. أوَلم ينط الدستور صلاحيات رئيس الجمهورية عند شغور موقع الرئاسة بمجلس الوزراء، ألم يكن في إمكان الحكومة ان تقوم بهذه المهمة؟

يصبح إلغاء الاحتفال مجرد تفصيل، لدى التدقيق في كيفية تعاطي اهل السياسة مع المؤسسة العسكرية. هم يطلبون منها كل شيء ولا يقدمون لها إلا النزر القليل و”بالقطارة”، في الوقت الذي يريدون لها أن تتوسع وظائفها، من الإطفائي للحرائق الى المصالحات العائلية، الى الأمن الداخلي وشرطي السير، الى الحرب على الإرهاب إلى مكافحة شبكات التجسس والتخريب، إلى الحدود الجنوبية مع “اليونيفيل” وحماية القرار 1701، إلى الحدود الشمالية في مواجهة المجموعات الإرهابية، إلى البقاع الشمالي ومطاردة عصابات الخطف وتجار الفدية، وإلى آخر ما هنالك من مهام على صلة باحتفالات ومناسبات لهذا الرئيس أو ذاك، لهذا الضابط والمسؤول أو ذاك!

يطلبون كل شيء من الجيش، وها هو القسم الأكبر من الآليات العسكرية شبه معطل ويحتاج إلى صيانة ولا تملك المؤسسة كلفة صيانتها، برغم المطالبات المتكررة، لكأن المؤسسة تصرخ في البرية.

يطلبون من الجيش، ويريدون له أن يكون رهن مشيئة هذا أو ذاك من المعسكرات السياسية، أو مكسر عصا لهذا السياسي أو ذاك، فإن أوقف مطلوباً تنهمر عليه الوساطات وإن أوقف إرهابياً وبالجرم المشهود، يخوَّن من نواب وسياسيين ورجال دين محسوبين على جهات سياسية فاعلة، وإن طاله مسّ أو أصابه اهتزاز، كما حصل مع “عريف عرسال”، لا يجد من يتصدى لعملية هي الأخطر لفك لحمة الجيش، خصوصاً أن هناك من يتوعد بعمليات مماثلة، ولعل الجيش نجح في تعطيل عمليات مماثلة، في الوقت الذي ضجت فيه مواقع “جهادية” بأنباء عن محاولات فرار جديدة لضباط وجنود!

لقد تمكّن الجيش مؤخّراً من وقف مسلسل العنف في مدينة طرابلس بعد عشرين جولة حربية بين المسلحين في التبانة والقبة والمنكوبين مع جبل محسن، لكن هذا النجاح جاء بمظلّة سياسية كشفت مسؤولية السياسيين في تعطيل جهود الجيش منذ العام 2008، وفي خلق حالة احتقان ضده مع كل جولة عنف بحيث كان يتم اتهامه بأنه “غير متوازن” في التعامل مع بيئات المسلحين المتقاتلين، خصوصاً أن بعض تلك البيئة ورموزها الفاعلة لديها ما يكفي من الاحتقان المتراكم ضد الجيش منذ معركة الضنية منذ بداية العام 2000 والتي واجه خلالها مجموعات تنتمي فكرياً إلى “القاعدة” وعلى رأسها أحد العائدين من أفغانستان المدعو “أبو عائشة”. ثم في محطة ثانية في العام 2007 عندما خاض الجيش مواجهة مفتوحة مع المجموعات نفسها في طرابلس وبلدة القلمون وصولاً إلى مخيم نهر البارد الذي تحصّنت فيه مجموعات مسلّحة تحت اسم “فتح الإسلام”.

وقد أثبتت هذه الاستحقاقات وغيرها الكثير، من صيدا والجنوب الى البقاع والعاصمة والجبل، أن للجيش بيئة حاضنة على المستوى الوطني، لكنها معطّلة بسبب حملات الشحن والتحريض التي تتعرّض لها المؤسسة العسكرية من بعض المشايخ والمسلّحين والمتضررين من فرض الأمن والاستقرار في أكثر من منطقة لبنانية وخصوصاً في مدينة طرابلس، فضلاً عن “صراع الأجهزة” الذي ينعكس تسويقاً لمقولات عن “انحياز الجيش” أو أن “الجيش يتعامل مع طرابلس والشمال بطريقة متشددة في حين يتساهل في مناطق أخرى، كالضاحية والجنوب مثلاً”.

وإذا كانت ممارسات كهذه تؤدي الى إرباك الجيش أحياناً، فإن الحري بقيادته أن تدرك أن بيئة لبنان الحقيقية كلها إلى جانبه في مواجهة أية مشاريع للفوضى الأمنية وانتشار السلاح في الشوارع والزواريب تحت أي مسمى كان، ولا يجوز للأمر الواقع أن يضلل أحداً أو أن يجعل الجيش ينكفئ، أقله في ظل تشدق معظم الطبقة السياسية بقرارها السياسي الواضح بحماية الجيش ودوره المشترك.

ولعل أقل الواجبات في هذا “الزمن الداعشي” إقليمياً، أن تتوطد ركائز البيئة السياسية الحاضنة للجيش فعلاً لا قولاً، وأن تتوفر الإرادة الصادقة في تحصين المؤسسة العسكرية وفي مدها بما تحتاج إليه من عديد وعتاد، خصوصاً أن هناك من عوّل على الثلاثة مليارات دولار أميركي (الهبة السعودية بتسليح الجيش عن طريق الفرنسيين)، لكنها حتى الآن بقيت مجرد وعد حتى يثبت العكس.

ثمة سؤال أخير يفرض نفسه في مناسبة الأول من آب: ألغي عيد الجيش التاسع والستين في اليوم التاسع والستين على الفراغ الرئاسي، هل سيلغى احتفال عيد الاستقلال الحادي والسبعين في الثاني والعشرين من تشرين الثاني المقبل، خصوصاً أن لا مؤشرات من الآن وحتى اليوم الـ 182 لكي يكون للبنان رئيس للجمهورية