في اليوم الثالث للمواجهة القاسية والشرسة التي يخوضها الجيش ضد المجموعات الارهابية في عرسال، اتخذت هذه المواجهة أبعاداً جديدة فائقة الاهمية والدلالات سواء على الصعيد الميداني أم على الصعيد السياسي والوطني العام بحيث تساوت على نحو نادر طلائع التقدم الميداني للوحدات العسكرية المقاتلة مع طلائع تشكيل اجماع سياسي ورسمي وشعبي محتضن للجيش في المعركة المصيرية.
ولم يكن أدل على اهمية هذه التطورات من الشكل والمضمون اللذين غلفا قرارات مجلس الوزراء عقب جلسته الاستثنائية امس، إذ أعلن رئيس مجلس الوزراء تمام سلام محاطا بجميع الوزراء موقفا متسما بحزم استثنائي في رفض أي حل سياسي في المواجهة مع الارهابيين وبدعم مطلق للجيش الى حدود اعلان التعبئة الكاملة لتوفير كل مستلزمات هذا الدعم. هذا المشهد المجسد لدعم الدولة والحكومة والقوى السياسية للجيش من دون أي لبس، اتخذ دلالته كالرسالة الأقوى التي اطلقت من مجلس الوزراء مجتمعا بما يضم من قوى سياسية اساسية، الأمر الذي يقطع الطريق على أي تشكيك في تمتع الجيش بالغطاء السياسي الشامل في معركته القاسية مع الارهاب الذي اسر عرسال وشن هجماته المتعاقبة على المواقع العسكرية.
أما الواقع الميداني، فشهد في الوقت نفسه تطوراً بارزاً تمثل في نجاح الجيش في التقدم في شكل مطرد لاحكام الحصار على انتشار مسلحي التنظيمات الارهابية من خلال سيطرته امس على معظم التلال المحيطة بعرسال وربط مواقعه بعضها بالبعض، علما ان الجيش استقدم تعزيزات آلية وكتائب اضافية من القوى البرية بما يعكس تصميمه على المضي نحو استكمال عملية “السيف المصلت” مهما كلفت من تضحيات حتى انسحاب الارهابيين من الاراضي اللبنانية واستعادة اسراه وفك اسر عرسال الرهينة. وهو الامر الذي اقترن كذلك بتوقعات لاحتدام واسع في المواجهة في الايام المقبلة اذ ان المساعي التي بذلت لاحلال هدنة مساء بدا سقفها ثابتا في القرارين العسكري والسياسي وهو انسحاب المسلحين انسحابا شاملا الى الاراضي السورية واطلاق الاسرى من الجيش وقوى الامن الداخلي واخلاء عرسال.
ومع ذلك، فان الوقائع الميدانية لم تخف الصعوبات الضخمة التي لا تزال تعترض عملية تحرير عرسال من الارهابيين، اذ ارتفعت كلفة تضحيات الجيش الى 14 شهيدا و86 جريحا وفقد 22 عسكرياً، فيما استطاعت وحدات الجيش اجلاء نحو 120 مدنياً من عرسال كانوا محاصرين بالقرب من المهنية وأفيد عن العثور عن 50 جثة من المسلحين.
مجلس الوزراء
وعلمت “النهار” من مصادر وزارية عدة ان الجلسة الاستثنائية لمجلس الوزراء امس التي تابعت قضية بلدة عرسال كانت بمثابة تطور في مسيرة وحدة الموقف اللبناني بما يتجاوز من حيث الاهمية محطة البيان الوزاري الذي قامت على أساسه الحكومة الحالية. وفي تعبير احد الوزراء كانت الجلسة بمثابة “كوع” مفصلي في المرحلة الراهنة. ووصفت المصادر البيان الذي تلاه الرئيس سلام بأنه جامع ومرتفع اللهجة، علما ان رئيس مجلس الوزراء حرص خلال الجلسة على ابداء عزمه على تلاوة البيان الذي أعده لهذه الغاية على مسمع من الوزراء، لكن الجواب بالاجماع كان في رفض الاستماع الى البيان انطلاقا من ثقة الوزراء بما يعتزم الرئيس سلام قوله وكان أبرز ما اعلنه قرار مجلس الوزراء استنفار كل المؤسسات والاجهزة الرسمية “للدفاع عن بلدنا والتصدي لكل محاولات العبث بأمنه والدعم الكامل للجيش”، لافتا الى طلبه من فرنسا التعجيل في عملية تسليم الاسلحة التي سبق الاتفاق عليها. كما اعلن ان “لا تساهل مع الارهابيين القتلة ولا حلول سياسية مع التكفيريين”. وقالت المصادر الوزارية ان نجاح الحكومة في موضوع سيادي تجلى في شكل نادر. كما ان الالتفاف الشامل حول الجيش جعل كل المواقف المشككة أمرا غير ذي شأن وفي هذا الاطار كان رفض شامل لبعض التصريحات. وخلال البحث كان الاهتمام منصباً على مدى قدرة الجيش على حسم المواجهات في ظل وجود المدنيين في عرسال والذين هم جميعاً رهائن، وعلى مدى سرعة وصول امدادات جديدة للجيش فتبيّن انها ستصل سريعاً جداً. وتطرق النقاش الى المخرج السياسي الذي لا بد ان ينتهي اليه كل عمل عسكري، فعلم انه على رغم قرار اتخذه مجلس الوزراء بالتكتم الشديد على التفاصيل، ان قواعد الحل ستلتزم بصرامة ألا يكون وقف النار أو الهدنة على حساب الجيش أو على حساب رهائن القوى الامنية أو المواطنين أو السيادة اللبنانية. وفهم ان الاتصالات ستنشط سياسياً وديبلوماسياً وسيتولاها بصورة أساسية الرئيس سلام ووزراء معنيون وتشمل دولاً وتنظيمات داخلية وخارجية بغية بلورة مخارج، لكن المعطيات تفيد ان المفاوضات لن تكون سهلة باعتبار ان الرأي العام اللبناني لن يتحمل أي نكسة تستهدف الجيش.
وفي اطار البحث في الحلول التي تتخطى الواقع الحالي، طرح وزراء حزب الكتائب موضوع توسيع اطار نطاق القرار الرقم 1701 وتوالى على الكلام تباعاً الوزراء سجعان قزي ورمزي جريج وألان حكيم فاوضحوا انه ليس من الضروري ان يشمل القرار كل الحدود الشرقية بل يتناول الجانب الساخن من هذه الحدود، فكان الرد من وزراء “حزب الله” وحركة “أمل” ان الظروف التي رافقت ولادة القرار لا تشبه الظروف الراهنة. غير ان وزراء كثيرين أيدوا الاقتراح الكتائبي. عندئذ آثر وزراء الكتائب، انطلاقاً من رغبة الرئيس أمين الجميل في ألا يكون الاقتراح منطلقاً للانقسام، الاكتفاء بهذا المقدار من النقاش حفاظاً على الاجماع الذي ظلل الجلسة وحرصا على ان يصل الرئيس سلام الى قيادة الموقف الحكومي بالطريقة التي تم بها.
وقبل الجلسة زار السرايا وفد هيئة العلماء المسلمين الذي سعى الى هدنة في عرسال، ثم زار لاحقاً قائد الجيش العماد جان قهوجي في اليرزة، وضم الشيخ سالم الرافعي والنائب جمال الجراح ومفتي البقاع الشيخ خليل الميس. وتركز المسعى على طرح يقضي بحماية المدنيين وبالافراج عن العسكريين المحتجزين لدى المسلحين، وبخروج كامل للمسلحين من لبنان، وبدخول الطواقم الطبية ونقل الجرحى، اضافة الى بند يتعلق بالموقوف أحمد جمعة باحالته على القضاء واخضاعه لمحاكمة عادلة. وكان اتفق على ان يتم وقف النار عند السادسة مساء، وتوجّه وفد هيئة العلماء المسلمين الى عرسال للتفاوض مع المسؤول الميداني عن هؤلاء المسلحين وهو المعروف بأبو طلال، ولكن لم يتم وقف النار وبقي الوفد في شتورا حتى العاشرة والنصف ليلاً عندما أفيد عن توجهه الى عرسال للشروع في مهمته.