اختلفت المصادر في تحديد نسبة الشيعة في العالم العربي بين 10 في المائة و7.5 في المائة، تعايشت مجموعاتها مع محيطها مئات السنين بسلام، إلا أن المحاولات التي بذلت في العقود الأربعة الماضية لتسييس هذه المجموعات وحشدها في حراك سياسي يطالب بالانفصال أو الحكم الذاتي أو الهيمنة على مؤسسات الحكم، قد وضعت الأقلية في مواجهة الأكثرية من الشعوب العربية والمسلمة، خاصة بعد أن اختطفت المجموعات الأصولية قرار الطائفة الشيعية وتحدثت باسمها، فوجدت الطائفة؛ لا «المجموعة»، نفسها في مواجهة الشعوب لا في مواجهة الأنظمة كما كان مقررا لها.
ففي اليمن يواجه الحوثيون – وهم أقلية – الشعب اليمني لا النظام اليمني، وفي العراق تواجه النخبة الحاكمة من شيعة العراق ثورة العشائر السنية ومنظمات إرهابية ورغبة كردية في الانفصال عززتها سلوكيات «حزب الدعوة» الإقصائية بعد تمكينه من السلطة بمساعدة الولايات المتحدة وإيران.. ويتكرر المشهد في سوريا حيث تتصدى الأصولية الشيعية بميليشياتها العسكرية يساندها الحرس الثوري الإيراني و«حزب الله» و«عصائب أهل الحق» و«سرايا الأشتر» وآخرون يبلغ عددهم 28 فصيلا شيعيا، لدعم النظام العلوي الشيعي في مواجهة الغالبية السنية الثائرة عليه.
ويزيد الأمر تعقيدا انحياز الولايات المتحدة لهذه الأقلية (الشيعة العرب) في كل الثورات العربية ضدها، وهي التي مكنتها أو شجعتها على الحراك، فبعض هذه الفصائل تلقت تدريبات عسكرية من الجيش الأميركي خاصة في العراق، في حين تماطل الإدارة الأميركية في دعم المعارضة السورية السنية وتماطل في تسليح الجيش الحر السني، وفي المقابل تتغاضى بانحياز عن جرائم «حزب الله» و«عصائب الحق» وغيرهما.. وهي تنظيمات شيعية مسلحة بعضها مصنف جماعة إرهابية وفق التصنيف الأميركي! وتتغاضى عن تنسيق الحزب وتعاونه مع الحرس الثوري الإيراني في قتاله في سوريا ضد السنة، بل إنها تغاضت حتى عن استخدام النظام السوري الأسلحة المحرمة. وهكذا نراها إما أنها تتدخل لتعزيز موقع هذه الأقلية أو تتغاضى عن جرائمها في موقع آخر. وإحدى مفارقات هذا التناقض كتب عنها المستشار السابق بوزارة الخارجية الأميركية فريدريك هوف؛ إذ لاحظ أن أوباما لم يجد مشكلة في العثور على عدة مبررات أخلاقية لإرسال مساعدات جوية للإيزيديين (يقدر عددهم بنحو 50 ألف شخص) في جبل سنجار وتوجيه ضربات عسكرية بصفة فورية ضد «داعش»، لإنقاذهم من همجيته، لكنه لم يعثر حتى الآن على مبرر أخلاقي واحد لوقف همجية نظام تخطى جميع الخطوط الحمراء واستخدم جميع الأسلحة المحرمة لقتل أكثر من 200 ألف وتهجير 9 ملايين مواطن في أكبر جريمة تشهدها البشرية في القرن الحادي والعشرين.
لذا ترى الشعوب العربية ذات الغالبية السنية أن محاولة الولايات المتحدة اليوم للحصول على تأييدها لتحالف دولي، هي محاولة لوقف تقدم ثورة العشائر العراقية السنية بسبب النجاحات التي حققتها على الأرض، فثورة العشائر تهدد الآن مشروعا أميركيا استغرق العمل به 12 عاما وكلف مليارات الدولارات، فكان لا بد من إرسال جون كيري للمنطقة لإعادة ترتيب الأوراق. فالحاجة لظهور داعش «كالفطر» كما كانت الحاجة لظهور أسلحة الدمار الشامل قبل 12 عاما لإسقاط النظام العراقي، كي يكون التدخل مبررا.
إن ما حققته أميركا في استراتيجية تمكين الأقليات العربية minority»
empowerment ليكونوا أداة للتغير وبدائل لحكم شعوب في هذه المنطقة، بدلا من حكم بعض الأسر في منطقة الخليج وحكم «الأنظمة العسكرية» في باقي الدول العربية، نجح في تحفيز هذه الأقليات.. نعم، لكنه جعلها في مواجهة الأغلبية لا في مواجهة الأنظمة، وهذا هو الفارق الذي لم تستوعبه تلك الاستراتيجية بعد.
فان لم تكن المواجهة مسلحة كما هي الحال في العراق وسوريا، فإنها ممثلة في العزلة والمقاطعة في دول أخرى، فالمؤسف أن الولايات المتحدة وهي تحرض «حزب الدعوة» البحريني على الانقلاب على الدستور وتدعمه وتدرب أعضاءه، لم تضع في حسبانها – مع الأسف – أنها إنما تضع الطائفة الشيعية بكل تلاوينها في مواجهة السنة ولا تضع الحزب في مواجهة النظام.
ومما يؤسف له أيضا أن سنة البحرين لم يقصروا مقاطعتهم أو عزلتهم على جمعية الوفاق الشيعية أو على الشيرازيين المتشددين من الشيعة فحسب، بل عمموا المقاطعة على كل ما هو شيعي دون ذنب اقترفته الطائفة، فعوام الناس عاجزون عن التفرقة بين الفصائل الشيعية وتياراتها، وزاد الطين بلة تمسك «الوفاق» بادعاء تمثيلها كل الأطياف الشيعية، فوجد أبناء الطائفة الشيعية البحرينية أنفسهم في مواجهة لا مع السنة في البحرين، بل مع السنة في جميع دول الخليج، أي مع الأغلبية الساحقة، فضيق عليهم في السفر، وضيق عليهم في العمل، وضيق عليهم في علاقاتهم الاجتماعية، ثم ساهم التيار السني المتشدد بإقحام الاختلافات العقائدية مع الخلافات السياسية في تعقيد المشهد.. جميع تلك التبعات اقترفتها أميركا بتحريضها لتلك المجموعات، ثم اقترفتها تلك المجموعات بحق الجماعات حين تحدثت باسمهم وأعلنت أنها تمثلهم، فجرت عليهم تبعات سلوكها وممارساتها.
وحين شجعت الحكومات العراقية المجموعات الأصولية الشيعية في دول الخليج على الحراك والتنسيق فيما بينها، برز دور هذه الشبكة الأصولية إبان الاحتجاجات التي جرت في البحرين وفي شرق المملكة العربية السعودية، حيث كانت الحكومات العراقية جسرا امتد ليربط المجموعات الأصولية البحرينية بالدوائر الأميركية المعنية بعملية التغيير في الشرق الأوسط، وكادت تقع المنطقة كلها في أتون حرب طائفية تدور بين الأقليات والأغلبية، لا بين الأقليات والأنظمة، بسبب مواقف هذه المجموعات الأصولية، وهذا هو الفارق بين ما رسمته الاستراتيجية الأميركية، وما طبق على الواقع.
ثورة العشائر العراقية الآن ووقوف شعب البحرين في الفاتح بتاريخ 21 فبراير 2011 يهددان بتعطيل المشروع الأميركي بتمكين الأقلية في شرق الجزيرة العربية، وبدلا من أن تساعد الولايات المتحدة شعوب هذه المنطقة في إذابة هذه الفوارق الطائفية وتعزيز دور المواطنة، دفعت الأقلية لتواجه مصيرها في مواجهة الأغلبية، وتعود للمنطقة لحماية مشروعها التقسيمي.
السؤال الآن هو: كيف سيقنع جون كيري دول مجلس التعاون بأن الحرب على الإرهاب لن تكون حربا لوقف ثورة العشائر السنية في العراق؟ كيف سيقنعهم بأن الحرب على الإرهاب ليست تعاونا أميركيا – إيرانيا من أجل استكمال مشروع تمكين الأقليات من «الشيعة العرب» على الغالبية السنية؟ ثم كيف ستضمن الدول العربية أن صك القبول والمشاركة في التحالف الذي تسعى لتشكيله الولايات المتحدة باسم الحرب على الإرهاب لن يوجه لقصف ثورة العشائر، ما لم يكن الصك مشروطا بخروج كل القوات الإيرانية وجميع التنظيمات الإرهابية المسلحة الشيعية والسنية معا من كلتا الدولتين سوريا والعراق وترك هذه الشعوب كي تقرر مصيرها دون دعم طرف على آخر؟
كما أن السؤال الأهم هو: كم مرة ستعود القوات الأميركية لحماية هذه الأقلية من ثورة الأغلبية، وكم مرة ستنجح أميركا في حشد تحالف «دولي» وتلبي نداء استغاثة الأقلية لمساعدتهم في مواجهة الأغلبية