«موجبات استثنائية» أملت العودة المفاجئة، والقصيرة، للرئيس سعد الحريري الى بيروت. أبلغ من يعنيهم الأمر «تخليه» عن مهمة إسقاط النظام السوري، واستعداده لتسوية تتيح انتخاب رئيس جديد يضمن سحب سلاح المقاومة من التداول ويترك لتيار المستقبل إدارة الشأنين السياسي والاقتصادي. وسمّى الحريري، للمرة الأولى، شخصين لتولي هذه «المهمة»: جان عبيد وجان قهوجي
ابراهيم الأمين
بالغ كثيرون في تقدير نتائج الزيارة الأخيرة للرئيس سعد الحريري الى بيروت. كثر أملوا إجراء تسوية عامة، او اختراق للجمود السياسي، او تحريك لعجلة المؤسسات. حتى أنصار الرجل كانوا يعتقدون بأنها رحلة العودة الدائمة. وفي دائرته القريبة، هناك من أعاد جدولة عاداته اليومية، ربطاً بوجود الزعيم، وأخرج آخرون من أدراجهم مشاريع متنوّعة، كان يُطلب منهم إرجاء البحث فيها حتى يعود الشيخ!
وحده سعد الحريري كان يعرف أن زيارته قصيرة جداً، وأن موجبات استثنائية فرضتها، وأن بعضاً من الاسباب التي دفعته الى المغادرة لم يعالج، لكن عليه بت بعض الامور والعودة الى عادات اهل الصحراء!
كانت رحلة الحريري القصيرة مثل علبة أسرار من لحظة الوصول الى لحظة المغادرة. عندما حطّت الطائرة التي كانت تقلّه في بيروت، علم بعض مساعديه انه هو الزائر. المواكب الثلاثة التي انتقلت من المطار الى وسط المدينة، كان عناصر أحدها لا يعرفون من في السيارات. حتى امنيو السرايا عرفوا بالامر في الدقائق الاخيرة. لم يكن مهماً لأحد ان يعرف بموعد الوصول. اصلاً، لم يكن هناك تقدير بأن احتفالات جماهيرية ستقام، وأن المواطنين سينتشرون على الطرقات حاملين الورود والاعلام ترحيباً بعودة القائد. والى ما بعد سفره، لم يكن الحريري وغالبية مساعديه يملكون جواباً عن البرودة الشعبية التي رافقت عودته، ما خلا حملة لافتات نظّمتها قيادة المستقبل على عجل. استعان القائمون على الامر في التيار بخبراء من عناصر سابقين في الاستخبارات السورية، وآخرين عملوا طويلا لمصلحة الاجهزة الامنية في الشوارع والأزقة. والدرس واحد: متعلّم الحي يكتب عشرة شعارات، وآخرون يعدّون الاسماء والجهات المفترض بها التوقيع. ولأن معظم الشركات المصنعة لهذه اللافتات لها في ذمة الحريري وجماعته اموال منذ ايام الانتخابات، جرى اللجوء الى مصنّع واحد، لم يكن لديه الوقت للتنويع فكانت النتيجة: نسخة موحدة خارجة مباشرة من بيت الوسط الى شوارع المدن والقرى!
احد المحيطين بالحريري، برّر البرودة الشعبية بأن الحريري نفسه لم يكن يريد ازعاج الناس، وأن لديه إجراءات أمنية منعت الجماهير من المشاركة الكثيفة في استقباله. واقتصر جدول اعماله الداخلي على فريقه الوزاري والنيابي والسياسي والحزبي والتنظيمي، ولم يكن هناك من وقت لاستقبال رئيس بلدية او مختار او شخصية عامة او رابطة عائلية او جمعية او خلافه، لكن السؤال الحقيقي: ماذا كان سيقول الحريري لهؤلاء لو زاروه؟
دار الفتوى
على أن حدثاً بارزاً عجّل في الزيارة. جدول الاعمال كان يسمح له بالتأخر بعض الوقت، لكن استحقاقاً اساسياً كان يجري العمل عليه منذ اسابيع، ويتعلق بالمرجعية الدينية في دار الفتوى. المساعدة المصرية والسعودية العاجلة وفّرت التفاهم مع المفتي السابق محمد رشيد قباني للانسحاب، وحملة علاقات عامة أتاحت للمفتي الجديد الحصول على دعم الفريق السني المعارض للحريري، لكن الأخير يريد تحقيق عدة اهداف:
ــــ يريد، أولا، ربط حدث انتخاب المفتي الجديد بوجوده في بيروت. كان حوله من يرفض ترك الامر في عهدة مساعديه، وهو يعرف انه ليس في فريقه من يمكنه التصدي غير الرئيس فؤاد السنيورة. والاخير كان مرفوضا حضوره اصلاً.
الحريري: ممنوع استفزاز حزب الله الى حد الصدام
أي رئيس سيخرج سلاح المقاومة من التداول ويترك السياسة والاقتصاد للمستقبل
ــــ يريد، ثانياً، إثبات قدرته على الامساك بالقرار متى تطلب الامر ذلك، وتوجيه رسالة الى من حوله، والى الخصوم، بأنه لا يزال يمثل المرجعية السياسية للمؤسسات الممثلة للطائفة السنية في لبنان.
ـــــ يريد، ثالثاً، الامساك بملف تفصيلي في هذه المؤسسة يتجاوز في بعده الخلاف مع المفتي السابق، إذ كان الحريري يصر على الدوام، وأصر أكثر بدعم سعودي ومصري، على ابعاد هيئة علماء المسلمين عن الموضوع. تقرّر الا يكون لهؤلاء أي دور، وأن على من يريد منهم الحضور التزام الاتفاق من دون اي مقابل. ومن يرفض فليبقَ بعيداً. وعندما تظاهر بعض اعضاء الهيئة احتجاجا على طريقة الاخراج، كان الحريري مسروراً بالصورة الاعلامية بأنه ليس على وئام مع هؤلاء.
أزمة عرسال و«داعش»
في الجانب الآخر المتصل بزيارة الحريري المستعجلة، ما كان يدور سياسياً واجتماعياً وشعبياً في ضوء أحداث عرسال. يدرك الحريري عدم قدرته على توفير تغطية للجيش للدخول في عملية عسكرية دامية في البلدة ومحيطها. ويعرف اكثر ان أي مواجهة حاسمة يدخلها الجيش تتطلب تنسيقاً وتعاوناً بينه وبين حزب الله من جهة، ومع الجيش السوري من جهة أخرى، وهو امر غير مرغوب فيه لأكثر من سبب، ليس من جانب الحريري وحده، بل من جهات اقليمية ودولية لا تريد هذا التكريس العملاني لدور حزب الله في حماية حدود لبنان الشرقية، لا الجنوبية فقط، كما لا يريد هؤلاء عودة التنسيق الميداني بين الجيشين اللبناني والسوري، ولو بحدود ما حصل في مواجهة مخيم نهر البارد. فكانت الخطوة العاجلة باطلاق مبادرة سعودية تقضي بصرف عاجل لمليار دولار يخصص لدعم الجيش والقوى الامنية الاخرى في سياق ضبط الوضع الامني في البلاد.
يقول سفير دولة الارهاب الفرنسي في بيروت إن بلاده، كما دول غربية أخرى، كانت على علاقة بالمبادرة السعودية، وان هذه الدول ارادت هذه الخطوة في سياق اعداد الية لمواجهة التنظيمات الاسلامية المتشددة في سوريا ولبنان والعراق من دون منح الخصوم اية مكاسب، وان المشاورات الغربية افضت الى ضرورة ان تتولى السعودية، بوصفها «دولة السنة الأولى»، قيادة مبادرة المواجهة مع «داعش» و«النصرة». وان يتولّى سعد الحريري بوصفه «زعيم سنة لبنان» ادارة الجانب التنفيذي لهذه العملية. لذلك وُضع شرط عدم صرف هذه الهبة إلا باشراف الحريري، بصفته الوكيل المباشر للمانح. وان يصار من خلال هذه الرعاية الى ضبط عملية الانفاق بما يؤدي الى عدم استفادة الخصوم المحليين والاقليميين منها.
لم يفعل الحريري خلاف هذا الاتفاق. عندما وصل الى بيروت، تصرف كأنه الرئيس الفعلي للحكومة. يحضر الاجتماعات (لم ينتقد جماعة الدولة والقانون حضور شخصية سياسية جلسة رؤساء الاجهزة الامنية كما حصل يوم اصر وزير الداخلية نهاد المشنوق على حضور المسؤول في حزب الله وفيق صفا اجتماعاً مماثلاً). ووضع تصوراً اولياً لتوزيع الهبة. وتولى شخصياً عقد الاجتماعات مع قائد الجيش والمدير العام لقوى الامن الداخلي والمدير العام للامن العام ورئيس فرع المعلومات وآخرين للبحث في تفاصيل توزيع الهبة. نصف المبلغ للجيش شرط ان يصرف على ابواب تخص الاسناد اللوجستي. والنصف الاخر للقوى الامنية. تقرر صرف مئة مليون دولار للامن العام. اعترض اللواء عباس ابراهيم، فوعده الحريري برفع المبلغ عشرين او ثلاثين مليوناً. لكن النقاش حول الية الاستفادة المباشرة ترك الى وقت لاحق. وحده فرع المعلومات يعرف ما الذي يحتاجه ويريد ان يحصل عليه، وسيكون له ما يريد، ولو من خلال طرق التفافية او موازنات جانبية على شكل هبات ترد من «العالم الحر».
الشارع السني
وفي هذا السياق، كان على الحريري حسم بعض المسائل ذات الصلة بالملف الامني. أبرزها:
ــــ اعلان القطيعة مع هيئة علماء المسلمين. واذا كان الظرف لا يسمح بفتح مواجهة معها، الا انه تقرر عدم التعاون معها خارج حدود ضيقة تخص بعض الاحياء والقرى. ومنعها من القيام بأي دور، وسيط او قيادي، في مواجهة اية مشكلة، من ملف قادة المحاور في طرابلس الى ملف عرسال مروراً بكل ملفات السجون. وكان منطقياً، تبعاً لذلك، توقع وقف وساطة الهيئة في ملف المخطوفين من العسكريين في جرود عرسال، كما بات قريبون من الحريري يتحدثون، صراحة، عن علاقة وطيدة تجمع اعضاء بارزين في الهيئة مع المجموعات المسلحة، وعن نقلهم مساعدات غذائية، وربما مالية، خلال رحلات التفاوض الاخيرة، واتهامهم بأنهم يريدون الامساك بالشارع من خلال تولي الرعاية السياسية او الاستفادة من دعم مالي خارجي. وفي هذا السياق، يشير احد المسؤولين القريبين من الحريري الى ان قطر هي الطرف الذي يتولى رعاية هيئة العلماء، وان لتركيا دورها في الامر ايضاً.
ــــ اعادة تنظيم الموقف السياسي لفريق المستقبل من المسألة السورية برمّتها. وحصل الامر على دفعتين، الاولى من خلال محادثات اجراها الحريري مباشرة مع قيادات ونواب، والثانية تولاها مساعده نادر الحريري مع قيادة تيار المستقبل، متجاوزاً للمرة الاولى موقع شقيقه احمد الذي سمع الحريري شكاوى كثيرة عن مسؤوليته في ترهل التيار.
وكان الحريري واضحاً في التأكيد أن موقفه لا يزال على حاله، لجهة معاداة النظام السوري، وانه سيكون مسروراً اذا سقط، لكنه استدرك سريعاً ليقول: «مع ذلك، فان مهمة اسقاط النظام ليست من واجبنا وليست مهمتنا، وبالتالي، ممنوع على أي ممن ينطقون باسمنا الاشارة في اي كلمة او خطاب الى مطلب اسقاط النظام، لأننا، في لبنان، لا قدرة لنا على تحمل فاتورة معركة اسقاط النظام في سوريا. كما لن يكون بمقدورنا تحمل فاتورة انتصارات قوى داعش والنصرة وغيرهما». ولكي لا يسود الاحباط، قال الحريري لانصاره إن في امكانهم مواصلة شتم حزب الله واتهامه بالتدخل في شؤون بلد آخر، لكن دون استفزازه بما يؤدي الى اي صدام، مشيراً الى أن معالجة الملفات الداخلية تتطلّب تعاوناً مع حزب الله، سيكون في المرحلة الحالية عبر الرئيس نبيه بري فقط، او في الحكومة.
وفي المقابل، سمع الحريري مطالبات بتعزيز نشاط ماكينة تيار المستقبل لمواجهة القوى الاسلامية التي تستقطب الشباب السنة، وان الامر يحتاج الى برامج عمل والى صرف موازنات ضرورية. وقد وعد الحريري بتلبية هذه الامور. لكن الجميع يشكّك في ظهور نتائج قريباً.
تحييد لبنان
وفي خطوة يراها الحريري، ومن خلفه قوى اقليمية ودولية، ضرورية، سارع الى اثارة ملف التسويات السياسية مع الحلفاء والخصوم. وهو اعد برنامج عمل يستهدف، اولاً، حماية الحكومة، وثانيا، ابلاغ الرئيس بري وبقية الحلفاء أن تيار المستقبل يريد التمديد فوراً للمجلس النيابي ولا يحبّذ اجراء انتخابات نيابية الان. وابلغ الحريري رئيس المجلس ان فريقه لا يمانع في تفاهم سريع على ملف الرئاسة، لكنه لا يريد ربط التمديد للمجلس بهذا التفاهم. وقال صراحة، وللمرة الاولى، ان تياره، ومن يمثل، مع تسوية منطقية تقوم على مبدأ سحب اسمي العماد ميشال عون وسمير جعجع من التداول، والبحث عن تفاهم على شخصية تكون قادرة على حماية التفاهم السياسي. وللمرة الأولى، اشار الحريري الى من يعتقد بأنهما الاقرب الى هذه الفكرة، وهما جان عبيد وجان قهوجي. والحريري، هنا، كان واضحاً، منذ البداية، بأن اي رئيس جديد سيضمن لحزب الله بأن ملف سلاحه لن يكون مدار بحث الآن. «لكن على هذا الرئيس ان يعقد معنا تفاهمات واضحة ومفصلة حول ادارة الشأنين السياسي والاقتصادي».
سافر الحريري معتمدا على ارضية تتيح اخذ النفس لبعض الوقت، على امل العودة قريباً لانجاز ترتيبات اخرى تخص الحلفاء في فريق 14 اذار، وقضايا اخرى، وما ستؤول اليه الاتصالات الجارية بعيداً عن الاضواء للتفاهم على خطوات تقود الى مزيد من تحييد لبنان عن النار السورية.