لا شك أن عودة الرئيس سعد الحريري المفاجئة شكّلت «صدمة إيجابية» للحركة السياسية المتلاشية، ووفرت زخماً ضرورياً لتيار الحكمة والاعتدال، بمواجهة موجات التطرّف والإرهاب، وأعادت بعض الاطمئنان إلى نفوس اللبنانيين، الذين رحّبوا بالهبة المليارية من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى القوات المسلحة، وأدركوا معها أنهم ليسوا وحدهم في التصدّي لمخاطر الإرهاب.
لقد تضافرت عوامل التوقيت، مع عناصر المضمون، لتعطي لعودة الحريري أهمية مضاعفة، في وقت كانت فيه عرسال تلملم جراحها، وفيما كان الذهول يهيمن على مشاعر اللبنانيين بعد المعركة الضارية ضد الجيش الوطني في جرود عرسال، وحيث ظهر لبنان، وكأن لا حول ولا قوة له للوقوف في وجه التهديدات المتعاظمة، المحدقة بأمنه واستقراره.
غير أن كل هذه المؤشرات الإيجابية قابلة للتبدّد والتلاشي، إذا لم تحظَ بالعناية المطلوبة من الأطراف السياسية الفاعلة الأخرى لأن العمل على تجاوز صعوبات ومطبّات، هذه المرحلة الدقيقة، والتي تنطوي أحداثها وتطوراتها على مخاطر جمّة، ليست مسؤولية شخص مُعيّن، ولا هي واجب تيّار سياسي وحده، بقدر ما هي مسؤولية وطنية شاملة، وتتطلب التمسّك بكثير من ضبط النفس والحكمة، وتغليب لغة العقل والصبر، على ما عداها من انفعالات الفعل وردّة الفعل، على أمل النجاح في صون البلد، من نيران الحرائق المشتعلة حولنا!
* * *
في الأمن، يبدو أن الهبة السعودية ستأخذ طريقها إلى التنفيذ سريعاً، بهدف استعجال إجراءات وخطوات تجهيز الجيش والأجهزة الأمنية بما تحتاج إليه من عتاد وعديد، وتوفير المعدّات المتطوّرة لمعارك الكرّ والفرّ، بعدما كشفت معركة عرسال، أنه كانت مع المسلحين أسلحة ومعدات أكثر تطوراً مما كان مع جنود الجيش الأشاوس، الذين قاتلوا ببسالة باللحم الحيّ، وفي ظروف لوجستية بالغة الصعوبة، لأن المهاجمين اعتمدوا عنصر المفاجأة، وبالغوا في حشد عدد مقاتليهم، الذي بلغ بضعة آلاف، حسب تقديرات الخبراء.
ورغم الأهمية القصوى لتعزيز قدرات الجيش والقوى الأمنية، فإن المعركة ضد الإرهاب تتطلب أيضاً تعزيز الأوضاع الإنمائية والاجتماعية والمعيشية، في المناطق والبيئات المهددة بانتشار سرطان الإرهاب في أرجائها، سواء عبر الواقع المتردّي للعائلات الفقيرة، وغياب التعليم والتوعية اللازمين، وانتشار البطالة بين الشباب.
فإذا كان مليار الهبة السعودية سيخصص لدعم الجيش والقوى الأمنية، فإن مناطق الأطراف، الفقيرة والمهمشة، تحتاج إلى مليار آخر، أو أكثر، لتحصين عائلاتها وأبنائها من أي اختراق، تحت ضغط الفقر والجهل والبطالة في تلك المناطق النائية.
* * *
في السياسة، أعادت العودة الحريرية النبض إلى قوى 14 آذار، وأنعشت معنويات جمهور الحريري وتيار المستقبل، في مختلف المناطق اللبنانية.
غير أن الاستحقاقات الداهمة، لا سيما انتخابات رئاسة الجمهورية، والتوافق على قانون الانتخابات النيابية، أو التمديد المُنتظَر لمجلس النواب الحالي، تتطلب تجاوباً من قوى 8 آذار، لسياسة اليد الممدودة أولاً، وعودة إلى التعاطي مع نهج الاعتدال الذي يُمثله الحريري، بكثير من الجرأة والواقعية، بعدما ذاقوا مرارة نتائج سياسة الإقصاء الغبية، التي مارسوها في السنوات الأخيرة، والتي أدّت إلى ظهور بؤر المغالاة والتطرّف في أكثر من منطقة، بين الشمال والجنوب، وساهمت في تأجيج التوتر المذهبي، والترويج للخطاب الفتنوي.
ولِمَن ينتظر إطلاق «المبادرات» من بيت الوسط ، نقول له، إن الوقفة الشجاعة التي أعلنها الحريري في التصدّي للإرهاب والتنظيمات الظلامية، تُعتبَر من أهم المبادرات الوطنية الشاملة، والتي يجب أن تشكّل الأرضية الصلبة، التي يلتقي عليها الجميع، لحماية البلد من المخططات الجهنمية، التي تعمل خراباً وتقسيماً لأكثر من دولة حولنا.
أما انتخابات رئاسة الجمهورية، فهي مسؤولية مسيحية أولاً، بقدر ما هي مسؤولية وطنية أيضاً، ولكن الحساسيات الطائفية المفرطة وأجواء الانقسامات المهيمنة على البلد، دفعت الأطراف الإسلامية، لا سيما تيّار المستقبل، إلى عدم الخوض في ترجيح أو ترشيح شخصية معينة، تفادياً للمعزوفة التي تتهم المسلمين بانتخاب النواب والرؤساء المسيحيين!!
الحريري عاد… ولكن المهم أن يعود السياسيون إلى الوطن!