يوزّع الرئيس سعد الحريري كوادره على الملعب: هذا لمحاورة عون، وذاك لمهاجمته. وهذا يترك الباب «مشقوقاً» لتأييده كمرشّح للرئاسة، وذاك يجزم قاطعاً الطريق. وفيما الحريري «يتكتِك» على خطّ جدَّة- باريس، وعون يتقلَّب قلقاً في الرابية، نارُ الفراغ والفوضى تلتهم الأخضر واليابس.
موقف الحريري المتردِّد والملتبس يتيح لعون وحلفائه إطالة اللعبة إلى ما لا نهاية
بالنسبة إلى الأمم المتحدة، «لبنان قد يتفكُّك»، وإجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية حيويّ لمنع ذلك. لكنّ معظم المعنيّين في لبنان يتجاهلون المخاطر، بين الذين يغسلون أيديهم والباحثين عن المكاسب.
المسؤولية الأساسية عن تعطيل الانتخابات يتحمَّلها الذين يطيِّرون النصاب، أي «حزب الله» وعون. لكنّ الموقف المتردِّد أو الملتبس الذي يلتزمه تيار «المستقبل» يتيح لعون وحلفائه إطالة اللعبة إلى ما لا نهاية. ولو حسَم الحريري موقفَه، لكان «حشر» هؤلاء ودفعهم إلى كشف أوراقهم.
حتى اليوم، يقول قياديون في «المستقبل» : «إنّنا منسجمون مع أنفسنا. فنحن ندعم مرشّحاً من «14 آذار». أمّا حوارنا مع عون فليس محصوراً بالرئاسة. ودعمُنا له مشروط بقبول حلفائنا المسيحيّين به».
وهذا الموقف، الذي يبدو منطقياً في الظاهر، يحمل إلتباساً غير مبرَّر في نقطتين:
1- يدرك «المستقبل» أنّ عون لن يتبنّى نهج «14 آذار» تحت أيّ ظرف، لأنّه لن يتخلى عن تحالفه مع «حزب الله»، فلماذا البحث معه أساساً في مبدأ التعاون الإنتخابي؟
2- يدرك «المستقبل» أنّ حلفاءَه المسيحيين لن يتبنَّوا ترشيح عون في أيّ وقت، فلماذا يوحي إذاً بانتظار التوافق المسيحي؟
ويعتقد بعض المتابعين أنّ مطاطية موقف «المستقبل» تلائم «حزب الله» من زاويتين:
1- «الحزب» أيضاً لا يتبنّى فعلاً ترشيح عون. وهو مرتاح إلى أنّ المماطلة ستتكفَّل بمهمّة إحراق عون، فلا يتحمَّل هو مسؤولية عن ذلك، ولا يتسبّب باستثارة غضب الحليف المسيحي.
2- يريد «الحزب» تعطيل الاستحقاقات انتظاراً لظروف داخلية وإقليمية. واستمرار المفاوضات «لا معلَّقة ولا مطلَّقة» بين الحريري وعون مناسبٌ للمماطلة.
لذلك، من مصلحة «المستقبل» و»14 آذار» وسائر العاملين لإنجاز الإستحقاق الرئاسي أن يبادر الحريري صراحةً وشخصياً إلى القول، وفي معزل عمّا سيفرزه حواره المفتوح مع الرئيس نبيه برّي: «لا حوار رئاسيّاً بعد اليوم مع عون، لأنّه لا يتبنّى ثوابتنا السياسية، ولأنّه غير توافقي. وتالياً، هو لن يكون مرشّحنا إطلاقاً».
واللافت أنّ الحريري ملتزم عدم العودة إلى الوراء في علاقته مع عون، على رغم المآخذ الكبيرة التي أبداها على طروحاته الرئاسية والنيابية الأخيرة (إنتخاب الرئيس من الشعب، «الأرثوذكسي» وتقديم الانتخابات النيابية على الرئاسية).
وثمَّة مَن يعتقد أنّ على الحريري أن يقولها… فيرتاح ويريح. وإعلانه موقفاً واضحاً من ترشيح عون ينهي حال الإنتظار الملتبسة في الرابية. فيدرك «الجنرال»، عندئذٍ، أنّ رهانه على دواء أزرق سحري يوصله إلى بعبدا، ليس في مكانه.
أمّا «الحزب» فيضطرّ إلى كشف الأسباب الحقيقية لتعطيل الاستحقاق، وربّما إلى الإنخراط في مفاوضات حقيقية حول المخرج. الأرجح أنّ الحريري، في إطلالته الإفطارية الوشيكة، سيبقى صائماً عن الكلام الحاسم. وهو سيترك الكرة في ملعب المسيحيّين. وفي أيّ حال، هؤلاء «جسمُهم لبّيس».
وربّما تدور أسئلة في أوساط الحريري: نحن مستفيدون من الهدنة مع عون لتبريد الأجواء وتسهيل عمل وزرائنا في الحكومة. فمِن أجل مَن يريدوننا أن «نُسوِّد وجهَنا معه». وهل المطلوب أن نكون أشدّ حِرصاً على الموقع المسيحي من المسيحيين أنفسهم؟
وهكذا يواصل «قطار الانتظارات» إنزلاقَه: لبنان ينتظر الانتخابات، والانتخابات تنتظر عون وحلفاءَه، وعون ينتظر الحريري، والحريري ينتظر السعودية، والسعودية تنتظر إيران والمشهد الإقليمي، وهذا المشهد ذاهب إلى المجهول. ولذلك، فإنّ «قطار الانتظارات» اللبناني سيصل إلى مكان لا وجود فيه للسكّة الحديد، وسينقلب بكلّ ركّابه! ملامح الانهيار بدأت تطلُّ من نوافذ الأمن واللاجئين والأزمات الاجتماعية والاقتصادية.
فهل يبادر الحريري ويقطع الحلقة المقفلة، فيحصر المسؤولية، ويفتح الباب لاحتمال انتخاب رئيس للجمهورية استباقاً للفوضى الآتية، أم يَضيع في التفاصيل كما تَضيع غالباً 14 آذار؟