نظن أن كل ما يحاول انجازه فريق 8 آذار المرتبط بتكاوينه وبتلاوينه بأنظمة يغلب عليها الطابع الاستبدادي، فكراً وممارسة ليس فقط تعطيل انتخابات رئيس جديد للجمهورية ورمي البلاد في الفراغ لافتراس الجمهورية، ولكن أولاً وأخيراً تعطيل الصراع السياسي. إعدام الحياة السياسية القائمة أصلاً على تعدّد المواقع والمواقف. وتالياً تخريب الديموقراطية المفتوحة على حرية التعبير والانتماءات. هذا هو جوهر الهدف الأساس. ولو راجعنا سلوك هذا الفريق منذ اندلاع ثورة الأرز حتى الآن، ورأس حربته حزب الله (حزب إيران) لاكتشفنا مدى خبث هذه الخطة الموضوعة بعناية وعلى مراحل وفي خطى تتقدم هنا بطيئاً، وهناك قفزاً. هذا التدرج يخفي في طياته محاولة تيئيس اللبنانيين من الديموقراطية. تيئيسهم من امكان قيام حياة حرة ودولة ومؤسسات وقضاء وبرلمان وحكومة وجيش وقوى أمن ورئاسة جمهورية. وهذا هو الفراغ بعينه: أن يفقد اللبنانيون الثقة بأي نهوض وتغيير نسبي حتى أو محدود. لأن كل تغيير يتم بالوسائل الديموقراطية المتاحة سيكون فاتحة، يعجز فريق 8 آذار عن استيعابه. وهذا ما دأب على امتهانه إما بالارهاب الفكري أو بالارهاب المسلح، على قوى 14 آذار التي رفعت بعض المبادئ التي نعتبرها «بديهية»: السيادة، الدولة العادلة، الديموقراطية، النظام البرلماني… والغريب أن حزب التحرير يعادي استقلال لبنان والدولة والحرية. إذاً ما كان هدف تحريره الجنوب من العدو الصهيوني إذا عاد بأفكار ضد تحرير لبنان من كل وصاية… وضد أي «هوية» لبنانية مدنية.
وعلى امتداد السنوات العشر الأخيرة، أي منذ «تشريف» الحزب من «حربه» التحريرية وانخراطه الفعلي في الحياة السياسية، لم يلق اللبنانيون منه (وخصوصاً الطائفة الشيعية) سوى هذه الذهنية التخريبية للديموقراطية «النسبية». من رفضه الحوار المدني إلى رفضه نتائج الانتخابات النيابية. إلى اغلاقه البرلمان إلا في مناسبات معنية(!) إلى خروجه من كل حكومة لا يهيمن عليها. إلى محاصرته حكومة السنيورة. إلى انقلابه المسلح على حكومة الرئيس سعد الحريري، إلى تأليفه حكومة لا تعبر عن الأكثرية النيابية التي افرزتها الانتخابات إلى خلخلة موقع رئاسة الجمهورية. إلى محاولة مصادرة القضاء. إلى قرصنة المرافئ والمرافق ومؤسسات أمنية وعسكرية إلى اغتيالات اتهم بارتكابها. إلى حماية المهربين والقتلة ومزوري الأدوية ومُصدّري المخدرات إلى محاولة تنفيذ سياسة «اقتلاعية» لبيئته المحضونة (بالقمع) إلى العمل لتطهير هذه «البيئة» الكانتونية من كل صوت يختلف عنه بالتهديد والوعيد… والتخوين والقتل(!) إلى تجاوز الدولة في قرارات الحرب والسلم والتورط في حروب داخلية وخارجية… إلى تعزيز ترسانته الحربية (بعد التحرير) وكأنها (كسلاح النظام السوري) موجهة إلى شعبه.
كل ذلك لا يحدث لا عفوياً، ولا مصادفة، ولا ارتجالاً. بل ضمن استراتيجية تريد أن تهلهل كل ما هو جمهورية ومفاهيم جمهورية (بالمعنى الحاضن للجمهور العمومي) انها الدرجات المعهودة لصعود الفاشيات نهشاً وتدرجاً وقضماً وعضاً لكل ما ليس من نسيج هذا الحزب. ثورة! لا! بل انقلابات متتالية. صدمات متتالية. اختراقات متتالية. معارك متتالية. تتراكم شيئاً فشيئاً، لتصل إلى ذروتها الانقلابية الشاملة. هذا ما يعني الفراغ، أو الافراغ. افراغ السياسة من ناسها. ومن مضامينها. افراغ السلطة من دورها. افراغ الكيان من جذوره. افراغ الوجود الشعبي من قسماته. ضرب «الهوية» الوطنية الشاملة واستبدالها «بهويات» مذهبية، عارضة، معروضة للبيع أو للاعارة، او للمقايضة. حتى الهوية المذهبية عند الحزب المذهبي تصبح سلعة ويصبح «أهلها» مجرد «أشياء»: تُشيّأ المذهبية وتُعولَم بالمعنى الاستهلاكي البعيد. اليوم تقدم «هذه المذهبية» بأثمانها إلى هذه الجهة وغداً إلى جهة أخرى. ولكي يتم ذلك لا بد من اقناع هذه القواعد (كما فعلت الميليشيات السابقة من مسيحية واسلامية وايديولوجية) بأنها «غير موجودة» بذاتها، بل سواها. وانها غير صالحة إلا بارادة غيرها. وانها عاجزة حتى تفكير نفسها وعلى من يحتضنها ان يفكر عنها. وانها غير قادرة على حرية الحركة، وتحتاج إلى من يُديرها. أي افراغ الناس من كل هوية متصلة بالفكر أو الوعي او بالاختيار أو بالانفتاح أو بالانسانية أو حتى بالفن والفلسفة والمجتمع. وعندما ينجح الحزب الالهي في هذه المهمة «الاقتلاعية» لا بد أن يوسع دائرته إلى ابعد من كانتونه… إلى كل البلاد لا باعتبارها بلاداً بل مجموعة كانتونات وجاليات مغلقة، على صورة ما فعله أي على صورته. وليس باعتبارها «وطناً» بل أوطان مستعارة، جاهزة للبيع وللشراء وللمقايضة.. والابتزاز. وبهذا المعنى يمكن ان نفهم عمق الفراغ. عمق الشغور السياسي والانتماء والانتساب والابعاد الثقافية والحضارية والدينية. فاذا اختُزلت الثقافة بنمط السلطة (أي سلطة) أو الحضارة بطابع التجزئة أو التاريخ بمطرقة التأويل الأحادي أو اختُزل الانسان كأداة والفكر بالخضوع، فهذا هو الفراغ «الوجودي» أو «الكياني» والانساني وحتى الديني. وهذا بالذات ما يُجوّف احجامَ الدين نفسه، سواء مسيحياً كان أم اسلامياً بتقزيمه إلى حزبية مذهبية ضيقة: أي مصادرة الكل باسم الجزء ثم تحويل الجزء جزئيات ثم تبديد هذه الجزئيات لتنتصر «الآلة « السلطوية. وهي أعلى درجة من درجات انتاج الفراغ. أو ليس هذا ما فعله الطواغيت في التاريخ عندما اختزل هتلر الشعب الالماني بالعرق الآري ومن ثم بالنازية ومن ثم بالهتلرية ومن ثم بالسلطة (أي سلطته) أو ليس هذا ما فعله ستالين؟ أو صدام حسين أو حافظ الأسد وولده بشار وحسني مبارك والقذافي وبن علي في تونس: عندما اختزل مثلاً صدام حسين الشعب العراقي (99،99) بالبعثية، ثم بالمناطقية. ثم بالمذهبية ثم بالعائلية، ثم: إفراغ كل شيء من كل شيء: الدولة من الدولة، الجيش من الجيش، السلطة من القانون. القانون من العدالة.. الإرادة الشعبية من الإرادة الشعبية. أو ليس هذا ما احتذاه النظام البعثي السوري (وهل بقي هناك بعث او من يبعثون في سوريا) والنظام «الاشتراكي» في اليمن، واللجان الثورية في ليبيا. احدث كلهم فجوة في التاريخ والماضي والحاضر والمستقبل فجوة داخل الوجود الشعبي: اي احلال الفراغ محل كل شيء محل الحضور نفسه.
إنها أنظمة الفراغ والتفريغ. أي افراغ الانسان العربي من كل أمل بالاحساس بوجوده وفرديته وحريته. افراغ الانسان العربي من كل ثقة بنفسه. انت لا شيء! وهذا اللاشيء يحكمون باسمه واعتباره وجوداً افتراضياً. ولهذا على الرغم من تسلط هؤلاء الطغاة بقيت «أنظمتهم» افتراضية ودولهم افتراضية وقوانينهم افتراضية. فعندما يتحول الشعب «قيمة» افتراضية يتحول كل شيء قيمة افتراضية. وكل هوية قيمة افتراضية اوليس هذا ما يفعله حزب الله اليوم، تماهياً بأسوأ ما عند هذه الأنظمة وخصوصاً ولاية الفقيه: اختزال الشعب الايراني كله بشخص مشخصن هو المرشد الأعلى، أوليس هذا ما اهتداه الحزب من «حلفائه» أو من المعجب بهم، يتماهى بهم، تماهيهم به، إلى درجة لم نعد نعرف من يتماهى بالآخر. فبوتين وتشافيز وخامنئي وبشار الأسد والمالكي يتماهون ببعضهم في الوقت الذي صاروا موضوع تماه به. «رموزاً عليا» (تماماَ كما تماهى بعضهم بستالين وهتلر وتشاوسكو وموسوليني وبول بوت وهملر… وغوبلز. هذا التماهي نستكشفه اليوم في لبنان كهجوم معاكس على «مبادئ» 14 آذار. حزب الله يكرر، بطريقة كاركاتورية تدرجات طغاة القرن العشرين في محاولة افراغ مجتمعه الصغير وبلاده من كل وجود مؤهَلّ ومُجذر. من كل قيم مفتوحة على الهويات التاريخية والجغرافية والسياسية والفكرية والثقافية لتحويل لبنان مكاناَ طحلبياً، لكائنات طحلبية وعقول طحلبية منزوعة الجذور والانتماء والثبات ومعاني الحدود والديموقراطية والكيان والتاريخ والحرية. أي جعل الشعب على صورته الاقتلاعية: مجرد حزب طحلبي يطفو على الارادة الخارجية بلا مضمون سوى السلاح ولا عقل سوى السلاح ولا تنظيم سوى مجرد جهاز حزبي أمني: هذه الطحلبية هي عملية الفراغ الذي سعى ويسعى اليها حزب الله: (تماماً كما يفعل النظام السوري في حربه على شعبه بتحويله كتلاً مستأصلة أو اهدافاً للاعدام والنفي أو عنواناً للارهاب وطمس كل هوية غير التي يلصق بها شعبه: أي اللاهوية) ولو طرحنا سؤالاً بسيطاً: ما هي أفكار حزب الله؟ فأي جواب سيأتينا: ديموقراطي؟ هو ضد الديموقراطية! يميني؟ يساري؟ ليبرالي؟ محافظ؟ رأسمالي؟ اشتراكي؟ برلماني؟ غير برلماني؟ لا شيء من كل ذلك: اذاً ما هي هويته؟ طائفيته؟ لامذهبيته؟ لا! ذلك ان هذه المذهبية عنده ليست انتماء لفئة الشيعة بل استغلال هذه الفئة، واخضاعها ودوسها وسحقها وطحنها واذلالها ودعس وطنيتها وهويتها لمصادرتها! مذهبية حزب الله هوية فارغة بلا انتماء سوى إلى التسليع سوى إلى سوق نخاسة مرعبة يعرض فيها دم «المذهب» وشبابه وارادته للبيع إلى الخارج! (ونذكر: هذا هو شأن الميليشيات المذهبية المسيحية والاسلامية والايديولوجية التي سبقت الحزب وتأثر بها وقلدها:) أولاً اخضاع الطائفة، (او المذاهب) ثم استغلالها ونهبها ثم افراغها من كل ما يربطها بفضائها الجغرافي والتاريخي والسياسي اي تجويف هوياتها لتسهيل استغلال دمها وبيعه في المزادات: اوليس هذا ما فعله حزب الله (وسائر «أحزب الله» اللبنانية قبله على امتداد الحروب؟) فهذه الطائفة بعظمها ولحمها ودمها ليست منذورة للوطن أو لحرياتها. بل لجهة خارجية هي ايران: وغداً قد تُقدّم إلى زبائن أخرى (نتذكر كيف كانت تغير الميليشيات السابقة مواقعها بحسب شروط العرض والطلب) اليوم هذه الطائفة تفتدي اسرائيل أو سوريا وغداً العراق، أو ليبيا. اليوم يباع دم شباب هذه الطائفة (بمزاد شبه علني!) إلى هذه الجهة وغداً إلى سواها، وهكذا دواليك. اي تشريع العمالة بناسها وبيئاتها. بالجملة والمفرق ومن يتذكر الحروب السابقة عندنا يكتشف ان تلك الميليشيات بتجويفها الهويات التي تتكون منها الشرائح وبعضها للخارج كأنما جعلت كل اللبنانيين، (بانتماءاتهم المفروضة) عملاء! شيء مخيف: كل طائفة مفرغة من كل «ارادة» واختيار شُحنت الى الخارج بحيث تحول لبنان على ايدي هؤلاء الميليشيات مجموعة شحن تنقل كالمواشي، لتُسفح على مذابح من اشتراها او امتلكها!
هذا ما يحاول تكراره حزب الله! هذا «العقل الشحنوي» والاستهلاكي استباح دم اللبنانيين كجزء من صفقات البيع والشراء وخصوصاً دم الشباب الشيعي عندما «شحنهم» نذائر وقرابين لنظام ولاية الفقيه وحاول ارساء قاعدة من ليس معنا فهو ضدنا على بيئته: يقصد من ليس يُقدم الينا طوعاً روحه وعقله وجسمه ودمه خضوعاً واذعاناً فهو ليس من هويتنا! بل عدونا وخائن ومنبوذ كل ذلك ما كان يمكن أن يتم لولا عمليات التفريغ المتواصلة (تسمى أحياناً غسل الأدمغة) في بيئته التي قبلت تضليلاً أو ارغاماً بأن يختزلها حزب لا هوية له سوى ما يلصق به من الخارج. وهذا ما يريد ان يطبقه اليوم بأحلام دونكيشوتية على كل لبنان (او ليس هذا ما يحصل في العراق بفضل الاستعمار الايراني) تجويف كل ما يصنع هويات اللبنانيين: العروبية، (واللبنانية) والسياسية والديموقراطية والسيادية والحرية والثقافية. اي كل ما يغذي تكاوين كل فرد من هويات كثرى والجماعة من اختلاف: أوليس هذا ما يفعله منذ أكثر من عقد جاعلاً كل شيء وكل انتماء فكري وانساني وحتى ديني ارضاَ محروقة يبني على رمادها «سلطته» المبيعة أصلاً للخارج!
أوليس هذا ما حدث في 7 أيار: احراق الصحافة كرمز للتعبير الحر، واذلال الناس، كمحاولة تطويع وافراغ وتيئيس كل من يحلم بغد افضل عبر افراغ كل المضامين أمامه ووراءه!
مهزلة تأخير تأليف الحكومة السلامية التي نفذها الحزب الهزلي وامتدت نحو سنة ومهزلة مجلس النواب الذي حاول الحزب تعطيله ومهزلة رئاسة الجمهورية التي يحاول فيها اليوم تبديد رمزيتها وجعلها مجرد غطاء لسياساته الخارجية!
هذه هي معاني الفراغ الأساسية التي يريد حزب الفراغ أن يفرضها على لبنان. ليقول لنا اما حزب الفراغ بسلاحه او الفراغ الجمهوري. اما ما يريد حزب اللاهوية وإما هوية للبنان.. سوى ما يصنع منها «جعالة» او بضاعة للبيع بمنطق العرض والطلب.. اوليس هذا الحزب اصلاَ بضاعة صُنعت أصلاً للبيع والشراء… لكنها بضاعة بدأت بالكساد.. ولن تصلح للتصدير سوى كخردة!
سوى ان اللبنانيين، أو كثرتهم، خيبوا وسيخيبون «آمال» هذا الحزب «الخائب» بأنهم أصمدُ من ان ييأسوا وأقوى من ان يخضعوا وأنبل من ان يركعوا.. اما الفراغ الذي يبشرنا به فهو طبيعي بالنسبة إلى حزب لا يشع فيه سوى الفراغ!
ولا «يضيء» فيه سوى الخراب!