في السنوات القليلة الماضية امتدت على نحو مهول وعلى امتداد العالم الاسلامي المساحة الترابية للعمليات القتالية بين الحركات الجهادية المسلّحة المجتمعة على رفع الراية السوداء نفسها وبين أعدائها على اختلاف مستوياتهم، من جيوش نظامية تابعة لبلدان مختلفة تدور رحى المعارك على أرضها، أو على مقربة منها، إلى تشكيلات غير نظامية سواء انشئت في سياق محاربة تمدّد الحركات الجهادية المسلّحة أو كان لها سياقها الاثني او الايديولوجي المختلف أساساً، إلى المجهود الحربي لدول كبرى، في طليعتها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وروسيا.
خارطة هذه العمليات القتالية تمتد من أفغانستان وبعض أقاليم الباكستان حتى اليمن والصومال جنوباً ومالي ونيجيريا غرباً، وبشكل عام نجحت هذه الحركات الجهادية المقاتلة في انشاء إمارات توسّع كثير منها ليشمل عشرات آلاف الكيلومترات، قبل أن يعود ويفرط عقده، كحال تجربة المحاكم الاسلامية وحركة الشباب في الصومال قبل التدخل الأثيوبي، أو كحال تنظيم القاعدة في المغرب الاسلامي وحركتي انصار الدين والجهاد والتوحيد في مالي وجوارها قبل التدخل الفرنسي – الافريقي، وكحال أنصار الشريعة في اليمن وليبيا، دون أن ينفي ذلك وجود ميل لتوطيد مناطق نفوذ مزمنة لكثير من هذه الحركات شأن مناطق نفوذ حركة طالبان في أفغانستان ووزيرستان، ولا يمكن التسرّع منذ الآن في الحكم على التجربة «الداعشية» الدموية والصاخبة في شرق سوريا وغرب العراق هل انّها ستنجح في فرض منطقة نفوذ مزمنة تمتص ايقاعات الكرّ والفرّ، أم أنّها ستؤدّي دورها في موجات التمدّد ثم الانكماش المتعاقبة التي تحكم بالمحصّلة العامة، منطق المواجهة بين الحركات الجهادية المقاتلة والسعيدة بماركة «تنظيم القاعدة» أو ما يعادله وبين مختلف المستويات العسكرية المواجهة لها.
الحاجة اذاً الى مقاربة شاملة تعود فتلحظ كم أنّ بقعاً شاسعة من خارطة العالم الاسلامي سيطر عليها المقاتلون الجهاديون في السنوات الماضية ثم أجبروا على الانكفاء عنها الى حين، ثم عادوا الى التمدد في الاقاليم نفسها أو في غيرها. عدد المناطق التي عاش سكّانها تحت رايات «تنظيم القاعدة» وأخواته في السنوات الأخيرة ليس بقليل أبداً، وتجارب «تحكيم الشريعة» في هذه المناطق صارت أهلا للمقارنة فيما بينها، ولحظ كيفية تجاوب أو عدم تجاوب السكّان، والأسباب التي تجعل عودة المقاتلين الجهاديين الى مناطق أجبروا على الاجلاء منها ممكنة وميسّرة. من دون هذه المقاربة الشاملة، وتتبع دينامية اتساع ثم انكماش ثم اعادة اتساع البقع الجغرافية المسيطر عليها من الجهاديين ليس بالامكان وضع «داعش والنصرة» في سياق الراهن وتحدّياته. ولأجل ذلك فإن التعامي عن هذه الخارطة الحيوية والمتبدّلة شهراً بشهر للمناطق المسيطر عليها من قبل الحركات الجهادية في اقاليم متعددة من العالم الاسلامي سوف يدفع بنا للبقاء في «التفسير الاجرامي» المحض لكل هذه الحركات، لكن من يمكنه أن يرى فقط بعين «عسكر وحرامية» عند تفحص بقع توسع وانكفاء ثم اعادة توسع الحركات الجهادية على خارطة العالم الاسلامي، وعند التفكير بأنه صارت هذه الخارطة حاوية لمرحلة من عمر ملايين السكان عاشوا ولو لفترة وجيزة تحت رايات تنظيم القاعدة، وتجارب تحكيم الشريعة وفقاً لمرجعية الحركات الجهادية المقاتلة؟!.
يبقى أنّ اعادة الاعتبار لخارطة العالم الاسلامي ككل تنبّه الى خطورة اضافية لـ»داعش»: فاذا كانت الحركات الجهادية المسلّحة الاخرى افلحت في سيطرة متفاوتة مكانياً وزمانياً على مناطق شاسعة من في السنوات الاخيرة فقد حدث ذلك في مناطق تبقى «طرفية» في خارطة هذا العالم الاسلامي. أما «داعش» أو ما تمخّض عنها من «خلافة جهادية» فإنّها تتمتّع بميزة التحرّك في قلب هذا العالم الاسلامي: المشرق العربي. والى حدّ ما، على منزلة «القلب» هذا راهنت «داعش» عند اعلان أميرها التنظيمي خليفة.
فهل بمقدور العالم الاسلامي احتمال «البقعة الداعشية» التي في قلبه طويلاً؟ في الصومال احتاج ضرب الجهاديين الى تدخل اثيوبيا، وفي مالي الى تدخل فرنسا، وفي أفغانستان ليس هناك ما ينجح في ضرب النفوذ الترابي المزمن لحركة طالبان على قسم رئيسي من البلاد. فهل تكون «داعش» في منزلة بين منزلتين بين النموذج الطالباني الذي نجح في الاحتفاظ بمناطق نفوذ مزمنة وبين النماذج المقصية عن مناطق سيطرت مارست فيها تحكيم الشريعة لفترة وجيزة ثم أجبرت على تركها؟ اسئلة لا يملك أحد الاجابة عليها اليوم، انما يمكن المجازفة بإبراز معادلة: لئن كان تدخل اثيوبيا المسيحية ضد الجهاديين في الصومال قصم ظهرهم ميدانياً وسمح لهم في الوقت نفسه بالدعاية الناجحة ضد «الصليبية»، فان تدخل ايران ومنظومتها في المنطقة له، فوق أبعاده المذهبية والقومية في مواجهة «الكتلة العربية السنية»، له بعدٌ أكثر خطورة: اذ ليس قليلاً ان تلعب ايران «الثورة الاسلامية» في المشرق العربي الدور الذي تلعبه اثيوبيا «المسيحية» في الصومال.