IMLebanon

الدولة تنسى المفقودين: من يتحمّل مسؤولية الفضيحة؟

سريعاً، نسيت الدولة مخطوفيها. من امتهن «الشحاذة» ينتظر اليوم «مكرمة» من امير «داعشي»، لإطلاق سراح جنود الجيش والدركيين الذين خُطفوا من عرسال. ليس خبر عودة الرئيس سعد الحريري ما طغى على الخطف. السلطة نفسها تريد للبنانيين ان ينسوا

هي الفضيحة بكل ما للكلمة من معنى. توقفت الأعمال الحربية في عرسال، لكن مصير 36 مفقوداً لا يزال معلقاً. هو معلوم. الجهات التي فاوضتها السلطة السياسية عبر هيئة العلماء المسلمين ــ أي «داعش» و«جبهة النصرة» و«الكتيبة الخضراء» ــ اختطفت جنود الجيش وأفراد الأمن الداخلي، وبدأت مساومتها بهدف إطلاق سراح محكومين وموقوفين من السجون اللبنانية والسورية. تجربة مطراني حلب وراهبات معلولا وزوار أعزاز تتكرر، لكن هذه المرة مع لابسي بزات الدولة. لكن الدولة بدت أمس طبيعية جداً.

الحياة فيها تسير كما لو أن شيئاً لم يكن. وعلى طريقة انتظار المكرمات الملكية لتسليح الجيش والاجهزة الأمنية وتسجيل الأطفال في المدراس الرسمية…، تنتظر السلطة اليوم «هبة» أميرية، من أمراء الجماعات الإرهابية السورية المعارضة، للكشف عن مصير الجنود والدركيين المخطوفين، وللحفاظ على حياتهم، ولتقديم مطالب للتكرم بالإفراج عنهم. والسلطة هذه غير مستعدة لإجراء مراجعة حول ما جرى خلال الأيام الماضية. لا أحد يريد أن يَسأل عن أرواح عسكريين ومدنيين زهقت، ولا عن رجال أمن مخطوفين، ولا عن بلدة خرجت عملياً من تحت مظلة السيادة. أكثر من ذلك، السلطة السياسية ترى أنها حقّقت إنجازاً. محقّون هم الوزراء الذين يتحدثون عن «نتائج ممتازة لناحية الحفاظ على بلدة عرسال، وعلى الغالبية العظمى من أهلها سالمين، وعلى السلم الاهلي، وعلى تماسك المؤسسة العسكرية».

حديث عن مطالبة بإطلاق 20 موقوفاً في رومية والحكومة تنفي

لكن الوجه الآخر لهذه النتائج كان فضائحياً. الدولة تريد من المواطنين أن يتأقلموا مع فكرة أن إرهابيين اجتاحوا بلدة لبنانية، واختطفوا رجال شرطة وعسكريين من الجيش، ثم انسحبوا بكل أمان إلى منطقة معلومة، ولم يلاحقهم أحد. ثمة من رجال السياسة من بات يلمّح إلى مسؤولية القيادة العسكرية عما جرى، فيما الأخيرة لا تزال تؤكد أنها لم تفاوض أحداً، وأنها التزمت قرارات السلطة السياسية، وأنها حتى اليوم غير معنية بأي مفاوضات. ولماذا لا يُلاحق الجيش المسلحين حيث هم في الجرود اللبنانية؟ يجيب وزير «وسطيّ»: «المسلحون كانوا هناك، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه. وهل يستطيع الجيش ملاحقتهم في مناطق شاسعة كهذه؟».

خلاصة الأمر أن السلطة السياسية اعتادت في حالات كهذه أن تضيّع المسؤولية. لكن ماذا ستفعل قيادة الجيش؟ هل ستكتفي بانتظار نتائج المفاوضات؟

أهالي المخطوفين انتظروا أن تكشف «الجهة العرسالية»، التي تحدث عنها وفد هيئة العلماء المسلمين، عن مصير أبنائهم ومكان وجودهم، لكن من دون جدوى. انسحب المسلحون من عرسال، كيلومترات عدة ناحية الحدود السورية ـــ اللبنانية، ولم تظهر بعد تلك «الجهة» التي تعهّدت بالكشف عن مصير جنود ودركيين لبنانيين بدت الدولة أمس كمن نسي أصل وجودهم. يترقب الأهالي كل حركة أو خبر قد يثلج صدورهم، ويفتح كوّة في جدار مخاوفهم من أن تطول معاناتهم وتقع في دائرة التجاذبات والمفاوضات. ما ظهر أمس لم يكن سوى «تسريبة» تتحدّث عن لائحة من 20 موقوفاً في سجن رومية، طالب المسلحون بالإفراج عنهم لقاء تحرير المخطوفين. لكن الحكومة سرعان ما نفت أن تكون قد تسلمت أي لائحة من هذا النوع، بحسب وكالة رويترز.

في عرسال لم يطرأ جديد على مشهدها؛ فلا قصف ولا ملثمين مسلحين يجوبون شوارعها وأحياءها، أو يستبيحون حرمتها. وحدهم أبناء البلدة خرجوا لتفقد ممتلكاتهم، في وقت عادت فيه عشرات العائلات التي نزحت منها مع اشتداد المعارك، واستباحتها من قبل مسلحي «داعش» وأخواتها. عاد نازحو البلدة للاطمئنان على قريب هنا وجيران هناك، وللكشف على منازلهم ومحالهم التجارية. الطوابير الطويلة لسيارات البيك ــ آب الصغيرة والكبيرة المليئة بنازحي عرسال العائدين، دفعت الجيش عند الحاجزين اللذين استحدثهما في حي المهنية، وجانب فصيلة قوى الأمن الداخلي المحترقة، إلى تنظيم حركة دخول النازحين، وتجزئة مواكبهم، «حرصاً على سلامتهم»، كما تؤكد مصادر عسكرية، خصوصاً أن غالبيتهم من أهالي محلة رأس السرج ـــ المهنية، حيث لم ينه الجيش بعد أعمال التمشيط والمسح. في ذلك الحي تحديداً، دارت أعنف المعارك والاشتباكات، وتعرض خلال الأيام الأولى «لهجوم شرس من المسلحين، تمكنوا فيه من السيطرة على ثكنة الجيش ــ الكتيبة 83 والمهنية، كما مارسوا عملية تموضع في غالبية منازل الحي ومسجده (أبو إسماعيل)، وحتى مخيم النازحين، الأمر الذي أدى إلى أضرار كبيرة في الممتلكات»، بحسب ما يشرح محمد الحجيري، أحد أبناء بلدة عرسال لـ«الأخبار».

الجيش من جهته واصل تعزيز مواقعه ونقاطه، مع إقامة عدد من السواتر في محلة رأس السرج ــ المهنية، من دون أن يدخل إلى بلدة عرسال.

في البلدة لا كهرباء ولا مياه؛ فالاشتباكات التي عصفت على مدى ستة أيام، أدت إلى تلف وتدمير في غالبية محطات تحويل الكهرباء. أحد مخاتير عرسال أوضح لـ«الأخبار» أن غياب التيار الكهربائي حرم البلدة التغذية بالمياه من الآبار الأربع التي تعتمد عليها بشكل أساسي، مطالباً شركة الكهرباء بالمسارعة إلى إصلاح المحولات الكهربائية بغية تأمين المياه للأهالي. وناشد المختار «الحكومة اللبنانية الإسراع في تكليف الهيئة العليا للإغاثة بالكشف على الأضرار التي لحقت بالمنازل والمحال التجارية والسيارات التي احترقت أو سرقها المسلحون».

«عرسال منكوبة» بحسب تعبير خالد أحد أبناء البلدة، إذ لا تقتصر الأضرار برأيه على ما خلفته الاشتباكات، بل هناك أضرار نجمت عن عمليات السرقة والنهب التي انتهجها المسلحون طيلة الأيام الستة التي عاشتها البلدة: «المسلحون لم يوفروا منازل أو محال. حتى إن بعضهم لجأ إلى إحراق منازل بعد سرقتها بقصد الإيهام أنها احترقت بفعل الاشتباكات». بدوره، أحد فعاليات عرسال يؤكد لـ«الأخبار» أن أضراراً غير تلك المادية لحقت بالعراسلة، فثمة «ضرر معنوي احتل صميم كل عرسالي احتضن نازحاً سورياً واحتضنه وعائلته طوال السنوات الثلاث الماضية»، موضحاً أن كل عرسالي بات لديه «هاجس الخلايا النائمة وحتى عودة المسلحين، فكل واحد منا أصبح يدرك جيداً أن المخيمات انسحب إليها مسلحون قتلوا وسرقوا وأمعنوا ترهيباً بأبناء البلدة، وباتوا عبارة عن خلايا نائمة داخل تلك المخيمات». واستطرد قائلاً: «نحن لن نقف مكتوفي الأيدي، والحل سيكون حالياً بالأمن الذاتي الذي سنستمر في تطبيقه، إلى حين عودة الدولة بأجهزتها الأمنية إلى عرسال».