IMLebanon

الديبلوماسية التفاعلية

للمرة الاولى منذ الاستقلال، تشهد الديبلوماسية اللبنانية، خطة منهجية متكاملة للعمل الديبلوماسي في الخارج، تختلف عن الصورة النمطية السابقة التي كان فيها هذا العمل يقتصر على التمثيل السياسي الأحادي الجانب.

وبرغم أن من شغلوا وزارة الخارجية في السابق، خصوصاً في الفترة الاستقلالية الأولى، كانوا من كبار الشخصيات اللبنانية التاريخية الوازنة، أمثال حميد فرنجية، شارل مالك وفيليب تقلا وغيرهم، فإن العمل الديبلوماسي اللبناني بقي محدوداً في آفاقه ومراميه، وإن كانت الخارجية اللبنانية قد أفرزت قامات ديبلوماسية عالية لا يزال اللبنانيون يكنّون لها الاحترام والتقدير.

لكن ما طرحه الوزير جبران باسيل في مؤتمر الديبلوماسيين اللبنانيين في 29 نيسان المنصرم، يشكل في إطاره العام، كما في مضمونه العصري، محطة على طريق تدريب أجيال جديدة من الديبلوماسيين على تحويل المنهجيات النظرية المقترحة إلى منهجيات عملية متطورة.

فالتعريف الجديد للعمل الديبلوماسي الذي أطلقه وزير الخارجية لا يقتصر على تحديد المجالات السياسية، الاقتصادية والاغترابية المنطلقة من واقع مديد عبر الأزمنة يلحظ كون الشعب اللبناني يأتي في طليعة الشعوب المعولمة، وبالتالي من أكثر الشعوب أهلية لممارسة التفاعلية مع الشعوب والدول الأخرى.

فالديبلوماسي اللبناني، في هذا الإطار، مدعو إلى تمثيل لبنان في العالم الخارجي تمثيلاً نوعياً جديداً، وإلى تمثيل بلدان الاعتماد في لبنان أيضاً من حيث تحديد نقاط التقاء المصالح ونقل طبيعة العمل الديبلوماسي من تمثيل بين دولتين إلى تفاعل بين شعبين، وإلى التعاطي العملي مع الفاعليات في الاتجاهين بغية توسيع آفاق التعاطي والتفاعل في شتى المجالات.

وتظهر ملامح هذه الصورة الجديدة المطلة من مجرد استعراض المراحل التي مرّت بها الديبلوماسية اللبنانية والتي يمكن تفرعتها إلى ثلاث مراحل: الأولى، من الاستقلال في العام 1943 حتى الأحداث والاضطرابات الدامية في العام 1958. الثانية، هي المرحلة الشهابية في اعقاب ما أسموه «الثورة» وحتى الحرب الأهلية الطاحنة من 1975 إلى اتفاق الطائف في نهاية الثمانينيات. المرحلة الثالثة هي الممتدة من بعد الطائف حتى أمد قريب.

ففي المرحلة الأولى، كان التمثيل الديبلوماسي اللبناني في مجمله تمثيلاً شرفياً، أو تشريفاتياً، إذا صح التعبير، مع تركيز سياسي على التمثيل في عواصم الدول الكبرى، أو «دول القرار» كما كان يسميها اللبنانيون، أو على الأصح وسائل الإعلام اللبنانية. وهذه الديبلوماسية المحدودة كانت بطبيعتها «فوقية»، وغير مجدية من الناحية العملية، بل كانت السفارات اللبنانية في الخارج شبه نائمة، ما استدعى في العام 1957 تشكيل بعثة تفتيش برلمانية على السفارات في الخارج ترأسها في حينه النائب أديب الفرزلي.

أما في المرحلة الثانية، فقد حاول الرئيس فؤاد شهاب تحديث الإدارة اللبنانية من خلال استحداث هيئات رقابية وتخطيطية، شملت أيضاً وزارة الخارجية بطريقة جانبية لكنها شكّلت تطوراً مهماً من حيث اعتماد الكفاءة في اختيار أعضاء السلك الديبلوماسي عن طريق المباريات بإشراف مجلس الخدمة المدنية، لكن أسلوب العمل الديبلوماسي لم يتغيّر كثيراً، وإن برز من خلاله معيار عشوائي بالمفاضلة في الأداء بين ديبلوماسي وآخر. لكن كل ذلك تعطل أيضاً في خلال الحرب الأهلية، كما تعطل لبنان كله بجميع مؤسساته تقريباً.

لكن في المرحلة التي أعقبت الطائف، جرى تطوّر لافت للانتباه، يمكن وصفه بأنه «اختزال الديبلوماسية اللبنانية بشخص رئيس الحكومة الشهيد رفيق الحريري»، الذي أخذ على عاتقه، العمل الديبلوماسي من خلال سفراته الكثيرة والمتكررة إلى دول العالم شرقاً وغرباً، فاقتصر دور وزير الخارجية في الحكومة على العمل الروتيني والإداري من غير بصمات تذكر على الفعل الديبلوماسي.

ولذلك، فإن وزارة الخارجية، تشكل بما تطرحه اليوم من تطوير للعمل الديبلوماسي اللبناني، نقطة افتراق في الديبلوماسية اللبنانية، قد تكون حاسمة في المراحل المقبلة، من حيث البحث الجدي عن مكامن جديدة للتفاعل مع العالم الخارجي بهدف واحد فقط هو فتح فرص جديدة وواسعة امام اللبنانيين لتحقيق مصالحهم ومصالح بلادهم.

التحفظ الوحيد الذي يمكن أن يساق في هذا الصدد هو أن التجارب اللبنانية علمتنا ملازمة الحذر قبل اطلاق العنان للتفاؤل، علما أن المنهجية الجديدة التي طرحها الوزير الشاب، فضلاً عن كونها مثيرة للإعجاب، تستحق أن تأخذ فرصتها من خلال درسها وتعميقها والسير بها بصورة جديّة.