بدأت مع إحتفالات تطويب القديس يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان المرحلة الثانية من الإنتخابات الرئاسية مع مغادرة نيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى روما ومنها الى باريس.. وبالتزامن مع الجلسة الثانية للمجلس النيابي.. والتي لم يكتمل نصابها ولن يكتمل إلاّ بحضور الناخبين الإقليميين والدوليين الى قاعة المجلس.. وبهذا نكون قد أكّدنا عجزنا عن انتخاب رئيس لبناني صنع في لبنان..
لا داعي للحديث عن الحركات النيابية في الجلستين الأولى والثانية إذ تميّزت بإظهار طبيعة هذا الاستحقاق الذي يأتي بعد ثورات الربيع العربي والتغييرات التي حدثت والنزاعات التي اندلعت ولا تزال في بعض البلدان مثل ليبيا وسوريا.. والتغييرات في مصر وتونس بين الموجة الأولى التي صعدت فيها قوى سياسية معيّنة و الموجة الثانية التي تراجعت فيها هذه القوى..
هناك الكثير من الإجتهادات حول هذا الاستحقاق الرئاسي.. ولكنّ المؤكّد بأنّ ما كان سائداً منذ انتخاب الرئيس الياس الهراوي حتى الآن لم يعد ممكناً.. وأنّ اتفاق الدوحة الذي جاء بمثابة أمر واقع غير دستوري ما لبث أن تخلّى عنه أصحابه من خلال تحويلهم الثلث الضامن إلى ثلث مدمّر والانتقال الى الاستئثار بالسلطة كاملة عبر الحكومة الماضية..
كانت السنوات الست للرئيس ميشال سليمان بمثابة المرحلة الانتقالية العكسية بين الرئيس الياس الهراوي والرئيس رينيه معوّض.. إذ بدأ العهد بهيمنة تفاهمات الدوحة واخواتها المخالفة للدستور وانتهت بالعودة الى الرئيس المكتمل الصلاحيات.. وكان الرئيس سليمان في السنوات الأخيرة شديد الإلتزام بصلاحياته كرمز للوحدة الوطنية ورئيساً للدولة وحامياً للدستور.. مما أربك احتمالات استخدام أدوات الأمر الواقع في إدارة شؤون البلاد.. كما كانت الحال على مدى عقدين من الزمان..
يدرك الجميع أننا اليوم أمام إعادة انتخاب الرئيس رينيه معوّض وعلى أساس اتفاق الطائف.. متجاوزين الإغتيال والإنقلاب على الطائف والرئاسات التي تلت.. وكأننا الآن نستجيب لدعوة غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير بعد اغتيال رينيه معوّض بإعطائه مهلة لاختيار رئيس للجمهورية يكون ممثلاً للمسيحيين في الشراكة الوطنية.. لهذه الأسباب تُعْتَبر الجلستان الأولى والثانية تعبيراً عن احساس المسيحيين بأن المسلمين غير قادرين على فرض رئيس عليهم بإرادة إقليمية كما جرت العادة في الرئاسات الماضية وخلافاً لإرادة المسلمين والمسيحيين معاً انتخاباً وتمديداً.. وهذا الإدراك لدى المسيحيين جعلهم مربكين أكثر مما كانوا عليه بسبب رغبة الجميع بإعادة تحديد أحجامهم وحضورهم في الشراكة الوطنية والمتوازنة على أساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.. بالإضافة إلى هذا العامل هناك شعور بأنّ الدور التاريخي للبنان بما هو دولة الأقليات في المنطقة.. والذي انتقل الى سوريا منذ سبعينيات القرن الماضي مع الرئيس حافظ الأسد والذي انتهى الآن بالنزاع المسلّح الدائر هناك.. فأصبح من الطبيعي أن يعود هذا الدور الى مكانه الطبيعي.. أي لبنان.. وفي ذلك إحياء للبنان الصغير واتفاقية متصرفية جبل لبنان عام 1860.. أي لبنان الصغير بين الدروز والموارنة مما دفع بمكونات جبل لبنان أن تتموضع على هذه القاعدة مجدّداً.. ومن هنا جاء ترشيح الأستاذ هنري حلو بمثابة تأكيد على حضور جبل لبنان الجنوبي أي عاليه والشوف في أساس التوجّه الجديد للبنان التاريخي.. الصغير والكبير..
الآن يسأل اللبنانيون ماذا بعد؟.. ومن الرئيس؟.. وعلى هذه الأسئلة إجابات متعددة إلاّ أن الأكيد هو أننا عشية اتفاق الطائف عام 1989 حين جاءت الإرادة الدولية والعربية لتقول بفصل أزمة لبنان عن أزمات المنطقة.. ودُعِي النواب ليضعوا خارطة طريق لعودتهم الى دولتهم واستقرارهم واستيعاب ما نتج عن الصراعات الدامية والطويلة وبالتحديد الميليشيات اللبنانية التي كانت حينها تتمثّل بأركان الإتفاق الثلاثي.. حركة أمل والإشتراكي والقوات اللبنانية.. فكان الاغتيال للرئيس رينيه معوّض ثمّ انتخاب الرئيس الياس الهراوي والذي جاء بمثابة اقصاء للمكوّن المسيحي في اتفاق الطائف والذي استُتبع بضرب قصر بعبدا وإخراج الجنرال ميشال عون المعترض على الطائف ثمّ انتخابات 1992 التي قاطعها المسيحيون.. وكان في ذلك قهر للإرادة المسيحيّة.. ثم جاء سجن الدكتور سمير جعجع وإبعاد الرئيس أمين الجميل لتكتمل بذلك عملية إقصاء المؤيّدين والمعارضين لاتفاق الطائف..
استوعِبت الميلشيات في إدارة الدولة الأمنية والادارية.. وكذلك تضخَّم حجم المسلمين في الشراكة الوطنية على حساب انكفاء المكوّن المسيحي.. وبدأت ظاهرة المقاومة كقوّة سياسيّة جديدة بعد انتخابات 1992 عبر كتلة نيابية كبيرة.. وإلى جانبها صعود الرئيس الحريري كشخصيّة وطنيّة انقاذية لاقت تأييداً كبيراً وحضوراً وإمتداداً وطنيّاً ومدنياً عابراً للطوائف والمناطق مما أزعج إدارة الأزمة.. وبدأت محاولات إضعافه وإقصائه باكراً منذ التمديد الأول عام 95 ثم إقصائه في العام 98 وملاحقة وطرد كل فريقه ظنّاً منهم بأنّ قوّة الرئيس رفيق الحريري بمستشاريه وهم لا شكّ من النخبة الحقيقيّة المميّزة والمنتجة كلٌّ في مجاله.. ومنهم مع حفظ الألقاب الفضل شلق، نهاد المشنوق، مهيب عيتاني، يوسف النقيب وسهيل يموت وغيرهم وغيرهم.. والفقيدَيْن وجيه خاطر ومحمود الميس.. وبدأت الملاحقات السياسيّة والقضائيّة مع التشجيع على إنتاج الكتب والمواقف من أجل تشويه هذه المسيرة وبتواطؤ من الجميع تقريباً..
جاء التحرير في 25 أيار 2000 الذي تزامن مع رحيل الرئيس حافظ الأسد بعد أسبوعين وصدور النداء الأول للبطاركة والمطارنة الموارنة والإنتخابات النيابيّة التي ربحها الرئيس الحريري ومن معه.. وعاد رفيق الحريري إلى الحكومة.. وأنجز باريس1 وباريس2 والإعتراف الدولي والإقليمي بإكتمال عناصر الدولة اللبنانية.. ومعها بدأت عودة الحضور المسيحي الوطني وعادت بكركي إلى دورها التاريخي الوطني والمؤثّر..
أدرك أعداء لبنان بأن الرئيس الحريري هو حالة حبّ وعشق للبنان وأن إرادته هي التي حملت رفاقه ومستشاريه ومساعديه ونوابه ووزرائه.. وأنّ ما من قوّة ستقف في وجهه بتحقيق حلمه الكبير بلبنان الكبير بإنسانه وعمرانه وإرادته واستثماراته واشقائه واصدقائه وأبنائه العاملين والمتعلمين والمقيمين والمغتربين.. فكان إغتياله بمثابة تتويج لكل مسارات التعطيل والتنكيل وتأكيد على عجز اللبنانيين عن إدارة شؤونهم بأنفسهم..
تبلورت بعد الاغتيال ارادة وطنية مسيحية اسلامية توقفت عند رئاسة الجمهورية.. ودافعت الكنيسة عن هذا المقام بصرف النظر عن متوليه.. وعاد الجنرال عون وخرج الدكتور سمير جعجع وأصبحت لدينا قوة سياسية جديدة لم تكن جزءاً من اتفاق الطائف أو أنها تكونت بعده وأصبحت الآن القوة الوازنة.. وكانت الدوحة بمثابة تأكيد على هذه القوى الثلاث.. المستقبل وحزب الله والتيار الوطني الحرّ.. بالإضافة إلى الثلاثية القديمة.. أمل والاشتراكي والقوات اللبنانية..
لا داعي للقلق على لبنان.. بل القلق على الطبقة السياسية التي لا تستطيع ان تصارح جمهورها بالحقائق المُرّة.. وهي انّها عاجزة عن تحمل مسؤولياتها الوطنية تجاه الوطن والاجيال الطالعة لأنها تبحث عن كيفية اعادة تجديد نفسها ولو على حساب الجميع.. وأن تصارحهم أيضاً بأنّ القوى الاقليمية والدولية أكثر حرصاً على الاستقرار في لبنان من قياداته السياسية.. وهذا واضح من خلال الــ 15 ألف جندي دولي في الجنوب وكلفتهم التي تفوق كلفة كلّ القوى العسكرية والأمنية اللبنانية.. كذلك الدعم الذي قدمته السعودية للجيش اللبناني وحرص السعودية وفرنسا على عدم الوقوع في الفراغ.. وأيضاً ادراك الدول الاقليمية الأخرى أهمية لبنان ودوره بما هو منصة قدَّمت نفسها من خلاله الثورات المصرية والفلسطينية والايرانية للعالم.. وكذلك الدور الثقافي والعلمي لأميركا وأوروبا عبر الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية.. وكذلك أهمية الانتشار اللبناني والتنوع اللبناني.. والأهم هو ما أعطاه الطائف للطوائف من ضمان ومشاركة واستقرار إذ أصبح الوزير في مجلس الوزراء ملكاً..
فلا خوف على لبنان بل الخوف على السياسيّين ومن السياسيين في لبنان.. وعلينا الآن عدم العبث بالتّوازنات لأنّها مدمّرة للاستقرار ولا داعي للغوص بها الآن.. إلا أننا مطالبون في الانصهار جميعاً في دائرة الدولة على أساس المناصفة واحترام الشراكة الوطنية والرئاسات.. وهذا يتطلب جهداً وطنياً داخلياً مميّزاً .. والنظر إلى المستقبل.. والكفّ عن النظر إلى الوراء أو محاولة الاحتفاظ بأدوار كانت على حساب غياب المكونات الأخرى.. كما حصل في الحكومة الماضية أو في الرئاسات الماضية.. وعلينا انتخاب رينيه معوض من جديد مرة أخرى وعلى أساس الطائف..