لا مفاجآت ولا تطورات متوقعة في المستقبل القريب بعد اجتماع وزراء الدفاع لدول مجلس التعاون الخليجي مع نظيرهم الأميركي تشاك هاغل في جدة، أو بعد دعوة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل نظيره الإيراني محمد جواد ظريف إلى الرياض. جولة الوزير الأميركي لم تكن طارئة أو مفاجئة. إنها جولته الثالثة خلال سنة ليؤكد مجدداً أن التزام بلاده أمن الخليج واستقراره «لا يتزعزع». جاء ليبدد، في الاجتماع المشترك الأول منذ عام 2008، أي مخاوف من أن يؤدي التفاوض مع إيران في ملفها النووي إلى «مبادلته بالأمن الاقليمي الخليجي». سبقه مسؤولون أميركيون كثر إلى المنطقة وآخرهم الرئيس باراك أوباما من أجل تأكيد الالتزامات الأميركية التاريخية حيال شركائها في مجلس التعاون، والأردن، وإسرائيل طبعاً. أمن الخليج ودوله «مسؤولية مشتركة بين دول المجلس والمجتمع الدولي، خصوصاً الولايات المتحدة نظراً إلى الترابط الاقتصادي والأمني بينها وبين دول مجلس التعاون»، كما عبّر ولي العهد وزير الدفاع السعودي الأمير سلمان بن عبدالعزيز.
الوزير هاغل كرر رغبة بلاده في قيام قيادة مشتركة فاعلة بينها وبين قوات دول المجلس مجتمعة، على غرار ما كان بينها وبين كندا، أو كما هي الحال في حلف شمال الأطلسي، حيث من الواضح أن القيادة الفعلية ستكون للبنتاغون أولاً وأخيراً. لكن دول المجلس منذ قيامها وعلى أثر اندلاع حروب الخليج الثلاث، فضلت ولا تزال، كما يبدو أن يكون التعاون بين دولها منفردة مع الولايات المتحدة. وهو ما عبّرت عنه معاهدات التعاون والصداقة بين كل واحدة من هذه الدول وأميركا أو بريطانيا وفرنسا. بل إن تاريخ قوة «درع الجزيرة» التي أُنشئت إثر قيام المجلس لم يشي برغبة في بناء قوة خليجية مشتركة كبيرة وضاربة تغني عن الجيوش الوطنية لهذه الدول. لذلك كان دور هذه القوة رمزياً واقتصر على عمليات التنسيق وتبادل الخبرات وغيرها من المسائل التي لا ترقى إلى تولي عبء الدفاع عن هذه المنظومة الإقليمية.
بالتأكيد لم يأت الوزير الأميركي لحشد القوى استعداداً لحرب جديدة متوقعة على وقع بعض ما يشاع عن فشل المحادثات بين إيران والدول الست الكبرى في شأن ملفها النووي. كانت الجولة الأخيرة صعبة ولم تحقق ما كان يُرجى منها، لكنها لن تكون خاتمة المطاف. المسار الذي انطلق وترجم في الاتفاق المبدئي في جنيف في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي لن يتوقف وإن تجاوزت المفاوضات المهلة الزمنية المحددة بستة أشهر. لم تنخرط الولايات المتحدة وإيران في حوار بعد ثلاثة عقود من المواجهة والصراع من أجل أن يتوقف بمثل هذه السهولة. إلى كل الأسباب المعروفة التي دفعت بالطرفين إلى الطاولة، كان ثمة عامل أساسي عجّل في خيار الحوار وهو الرغبة في عدم الانزلاق إلى خيار الحرب. إدارة الرئيس أوباما – وخلفها غالبية الأميركيين – لا تبدي أي حماسة لتقبل حرب جديدة في المنطقة. البلاد في أسوأ حالاتها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. تعبت الجيوش الأميركية وتعب الاقتصاد الأميركي. ولا إيران مستعدة للمجازفة في أي حرب عبثية لن تخرج منها منتصرة، بمقدار ما ستكلف اقتصادها المتهاوي فوق طاقة البلاد على التحمل.
كان الطرفان يبحثان عن سكة لا تنتهي بطريق مقفل بعد بضع جلسات من الحوار. أو كانا يبحثان عن دخول نفق مجهول النهاية، لكنه ينتهي حتماً بمخرج من الغموض والضبابية والشكوك المتبادلة، كما عبّر ديبلوماسي مخضرم معني بهذا الحوار. لهذا يبدو من الصعب أن ينكفئ الطرفان ليعودا من حيث بدآ. ولعل ما يشي بعزمهما على المواصلة هو اقتصار المحادثات على الملف النووي وحده فقط لا غير. وهذا ما كان عبّر عنه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في الجلسات التي تلت الاتفاق المبدئي. أكد أن الملفات الإقليمية السياسية وغيرها ليست مطروحة، أو هو ليس مخولاً البحث فيها. ويبدو الطرف الأميركي أكثر حرصاً على عدم إثارة أي ملف آخر غير الملف النووي. يريد الإنجاز هنا أولاً. لذلك يعتقد بعضهم بأن من بين الأسباب الكثيرة التي جعلت واشنطن تقف موقفها المعروف من الأزمة السورية أنها لا تريد أن يطرأ ما ليس في الحسبان فيعرقل المحادثات الخاصة بالبرنامج النووي. لم ترفع سيف التهديد إلا عندما استخدم نظام الرئيس بشار الأسد الأسلحة الكيماوية. وهي كانت أولاً وأخيراً تريد تدمير هذه الأسلحة لئلا تقع في أيدي الحركات الجهادية، ضماناً لأمن إسرائيل. ويمكن ملاحظة «غياب» الموقف الأميركي من قضية الحوثيين في اليمن مثلاً، والصراع الدائر في بغداد بين نوري المالكي وخصومه الكثيرين سنّةً وشيعةً وكرداً. ما يهمها في هذين البلدين هو المعركة الدائرة في مواجهة الإرهاب.
يبدو أن إدارة الرئيس أوباما تركت، حتى الآن على الأقل، الملفات الأخرى التي تتمحور حول دور إيران في المنطقة العربية لأهل المنطقة، أو لمرحلة لاحقة للاتفاق النهائي على البرنامج النووي. ويخدم هذا الموقف الجانب الإيراني الذي لن يكون في موقع المساومة والمقايضة قبل أن يعرف ما ستؤول إليه المفاوضات مع الدول الست الكبرى. لذلك تبدو طهران مترددة عندما توجه إليها الرياض دعوة للبحث في شتى القضايا العالقة وبينها المسألة السورية. او لعلها ليست مستعدة أو جاهزة لمثل هذا التفاوض في الشؤون الإقليمية. يعني التفاوض مع المملكة العربية السعودية أن تبدي إيران استعداداً لإعادة النظر في سياستها في الإقليم. وكان ولي العهد السعودي واضحاً في كلمته إلى اجتماع وزراء الدفاع في مجلس التعاون ونظيرهم الأميركي هاغل. أشار إلى التحديات الأمنية في المنطقة العربية «سواء كان مصدرها أزمات داخلية أو تطلعات غير مشروعة لبعض دول المنطقة»، وما تخلفه من «تداعيات ليس على دول المجلس فحسب وإنما على الأمن والسلام الإقليمي والعالمي». وخاطب الولايات المتحدة «أن تأخذ في حساب معادلاتها الأمنية والسياسية التهديدات المتنامية لأمن الخليج ودوله، بما في ذلك مساعي بعض دول المنطقة لتغيير توازن القوى الإقليمي لمصلحتها، وعلى حساب دول المنطقة».
يعني ذلك في لغة التفاوض أن السعودية تدعو إيران إلى وقف مساعيها لقلب موازين القوى في الإقليم، أي أن تتوقف عن التدخل في العراق وسورية ولبنان واليمن والبحرين وأماكن أخرى كثيرة في المنطقة. أي ان تعيد خطوط دفاعها عن شاطئ المتوسط، كما قال الفريق يحيى رحيم صفوي، القائد السابق لـ «الحرس الثوري» والمستشار العسكري للمرشد علي خامنئي. بالتأكيد، طهران ليست مستعدة في هذه المرحلة لأي تفاوض يدفعها إلى تقديم هذا الكم الكبير من التنازلات في هذه المواقع. بل كيف تُقْدِم وهي اعتادت ألا تخوض في حوار ما لم تضمن في اليد عائدات تسعى إليها أو الاحتفاظ بمكاسب لن تفرّط بها! لذلك يبدو مستبعداً أن يدخل الطرفان في «النفق» كما حدث بين الإيرانيين والأميركيين السنة الماضية… ما لم يكونا على يقين بأن ثمة «مخرجاً» في نهايته.
واضح اليوم أن إيران بدلت مرحلياً في موازين القوى في بعض المواقع التي تشعر المملكة العربية السعودية بوجوب تصحيح الخلل فيها. في اليمن، يخوض الجيش للمرة الأولى معركة مصيرية شاملة ضد «القاعدة». وهناك من ينتظر منه، أو يطالبه بألا يستثني أي سلاح غير السلاح الشرعي. اي يدعوه صراحة إلى مواجهة التيار الحوثي الذي يلقى الدعم من إيران التي يبدو أنها أوكلت الأمر هناك إلى قيادة «حزب الله». وقد اعتقلت السلطات اليمنية أخيراً مجموعة قالت إن عناصرها أوفدها الحزب لتدريب المقاتلين الشماليين الذين باتوا على أبواب صنعاء، والذين باتوا يشكلون «دولة داخل الدولة». وأبدت أميركا والسعودية ودول أوروبية أخيراً استعدادها لمساعدة القوات اليمنية تأهيلاً لتكون قادرة على مواجهة التحديات. ولا حاجة إلى ما يواجه نوري المالكي، الرجل المفضل لطهران في العراق، بل ما يواجه العراق الذي لا يبدو أن قوى ومكونات فيه أذعنت للأمر الواقع والمتغيرات التي حملها إسقاط نظام صدام حسين… ويكفي ما يواجه البلد من تحديات تهدد وحدة أراضيه ونسيجه الوطني فضلاً عن استنزافه طاقات الجمهورية الإسلامية.
والوضع اللبناني لا يشي بقدرة أي من الطرفين المتصارعين على الاستئثار بالبلاد وإدارتها وحده، وإن بدا أن الفريق الموالي لطهران يملك فائضاً من القوة أتاح له المشاركة في الحرب السورية التي تستنزف الجميع، وإن بدا أن النظام يحقق بعض التقدم. أما في سورية فمن المستحيل أن يعلن أي من الأطراف المتصارعة «النصر الناجز». خلاصة القول إن السعودية التي لم تهضم حتى الآن ما طرأ من تغييرات في العراق، تخوض صراعاً مريراً من مصر إلى العراق مروراً بلبنان وسورية واليمن للحؤول دون الإخلال بموازين القوى… ولمواجهة ما سمّاه الأمير سلمان «تحديات أمنية عدة وخطيرة، تأتي في مقدمها الأزمات السياسية التي تعصف ببعض الدول العربية، والسعي الى امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وتدخل بعض الدول في شؤون دول المجلس، وتنامي ظاهرة الإرهاب». وخلاصة القول أيضاً إن إيران التي صرفت ثلاثة عقود من البناء من أجل الوصول إلى شاطئ المتوسط لن تسلم بالتخلي عن مواقع حضورها في الإقليم الذي عليه الانتظار طويلاً حتى يستقيم ميزان القوى بما يضمن مصالح الجميع.