IMLebanon

الزيارة… والتحدّيات

طرأ تبدّل في سلّم الأولويات، تراجعَ الحديث عن الإستحقاق الرئاسي، لينصَبَّ الاهتمام على البطريرك بشارة الراعي مرافقاً البابا فرنسيس في زيارة الحج إلى الأراضي المقدّسة. يستولد الحدث بحثاً عن الأبعاد والخلفيات.

في كلّ مرّة يقترب لبنان من استحقاقٍ مصيريّ، تتّجه الأنظار نحو المسيحيين. فأهمّيته تساوي أهمّية الحاجة إليه، وأهمّية الحاجة إليه تكمن في أهمّية المسيحييّن عِلّة وجوده، من دونهم لا يشكّل سُنّته علامة فارقة في العالم العربي، ولا شيعته قيمة حيويّة فاعلة ومؤثّرة في هذا المدّ الإسلامي المنتفض. ترتبط الزيارة بالمكان والزمان والحدث التغييري في سوريا في مصر في العراق في العالمين العربي والإسلامي. أسقطَ الربيع العربي كلّ الأقنعة، ظهرت الوجوه على حقيقتها، أقلّيات وأكثريات، طوائف ومذاهب، حِلل ومِلل، فئويات وعرقيات، عشائر وقبائل، وقضيّة شرقيّة جديدة ما بين الديموقراطية والتوتاليتارية، وإذا كان الربيع العربي ينشد الديموقراطية، فهذا الحقّ يفترض أن يكون متاحاً لكلّ المكوّنات. 

ومن غرائب الطروحات وأخطرها، الربط بين الزيارة ومصير الأقلّيات المسيحيّة في هذا الشرق، وتحديداً في لبنان. وتكمن الغرابة في التهويل، والفوقيّة، أو الديكتاتورية المقنّعة باسم الدين والعرق والانتماء، وعلى قاعدة أنت مقبول في الوطن أو المحيط إذا كنتَ مطيعاً، ومستجيباً للإملاءات، علماً أنّ الأطراف التي تحاول لعبَ دور الوصاية ليست حرّة، بل هي مقيّدة بدول ومحاور، إنّها تلعب دور الوكيل عن الأصيل. 

يخضع لبنان اليوم لامتحان مصيريّ حول موقعه ودوره ووظيفته في الشرق الأوسط الجديد. إمتحان حول نظامه وتركيبته السياسيّة والمجتمعيّة، ولا يشكّل الإستحقاق الرئاسي سوى الجزء الظاهر من الأكمة، فيما الرواسي لا تزال مغمورة تحت طبقات كثيفة من الانتهازية المسلّحة التي تستولد طروحات ومشاريع ليس لها فيها سوى دور المطيع الذي ينفّذ أوامر مرؤوسيه.

بهذا المعنى فإنّ المسيحيّة في لبنان يجب أن تبقى ليبقى لبنان، لأنّه من دون مسيحيّيه لن يستمرّ، وستتحوّل الطوائف الأخرى مجرّد ملحقات بالأقاليم السنّية أو الشيعيّة الناشطة في المنطقة، لكنّ هذا البقاء، أو هذه الإستمرارية يريدها البعض أن تكون بإمرة الإنتهازية المسلّحة، ممتثلةً لإرادتها، مستنفرةً لخدمة مشروعها، بحيث يفصّل فائض القوّة الثوب الذي على المسيحيين ارتداؤه، ويحدّد أسُس النظام الذي يريده ويرتاح إليه، على أن يقبلوا بما يُترك لهم من فضلات.

وليس في الأمر مبالغة، والدليل أنّ فائض القوّة لم يقُل كلمته بعد في الإستحقاق الرئاسي، يريد رئيساً بعد أن يرتاح الى لبنان الذي يريد، وإلى النظام الذي يريده في هذا اللبنان. طالبَ مرّة بالمؤتمر التأسيسي، ثمّ توعّد بالفراغ، على أساس أنّ تكريسه، وطوال أمده سيؤدّيان إلى فوضى عارمة، وهذه ستدفع بالقيادات الى التلاقي، وعند انعقاده ستفرض الشروط والمواصفات لشكل الصيغة والنظام والكيان والدور والموقع الذي يفترض أن يحتلّه لبنان في نزاع المحاور الناشط في المنطقة.

يصوّب «فائض القوّة» على زيارة البطريرك، إنْ حصلت، ليرفع من منسوب شروطه حول مواصفات الرئيس، والضمانات التي عليه أن يقدّمها عندما يصبح في قصر بعبدا. بالطبع هذا منطق تبسيطيّ لأمور أكثر تعقيداً، وأعمق أثراً على وضع المسيحيين في لبنان، لا بل في الشرق، في ظلّ غموض كثيف يحجب الرؤية، لا بل يحجب صِلات الوصل ما بين هذا التحدّي الوجودي الذي يكتنف مصيرهم ومستقبلهم، و»التحدّي» الذي يتحدّث عنه فائض القوّة، والذي يراه ماثلاً في زيارة البطريرك إلى الأراضي المقدّسة، ومدى ارتباطها بالمشاريع والسيناريوهات التي لا تخدم مصالحه، ولا مصالح الدول التي تدعمه. فالزيارة، إن حصلت، عنوانٌ لمرحلة جديدة لا تتّصل بمصير المسيحيين ومستقبلهم، بل بمصير لبنان ومستقبله، وهل لا يزال حاجة دوليّة، أو انتفَت الحاجة إليه، وإلى دوره ورسالته.