IMLebanon

«السفير» في عرسال: صدمة الدولة.. والغدر

«السفير» في عرسال: صدمة الدولة.. والغدر

36 عسكرياً مفقوداً.. وخشية من «أعزاز» جديدة!

سعدى علوه

لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم السادس والسبعين على التوالي.

وها هي عرسال تستعيد الوطن إليها، بعدما أهملها طويلاً، وكاد التناسي يحوّلها «إمارة» تكمل مسلسل «إمارات الإرهاب» المستجدة من حولنا.

عادت عرسال، إلى حضن الدولة، لكن 36 عسكرياً لبنانياً من الجيش وقوى الأمن لم يعودوا بعد. هؤلاء تحوّلوا إلى رهائن لدى المجموعات المسلحة التي نقلتهم، على الأرجح، إلى الأراضي السورية، وعلى جدول أعمالها المعلن، قبيل عملية عرسال، الخوض في عملية مقايضة مع سجناء في سجن روميه.

دخلت «السفير»، أمس، إلى عرسال. البلدة منكوبة، بعد انكفاء المجموعات المسلحة عنها. مَن بقي من أهلها خرج يتفقد نفسه وجيرانه وممتلكاته ويلملم أجساد الشهداء، ويضمّد المفتوح.. من الجراح.

الإجابات تبدّت من شوارع كانت مستباحة وظلت محفورة فيها آثار آليات جابتها بالمضادات والمدفعية وقواعد الصواريخ. من منازل الأهالي المدمّر بعضها والمتصدّع معظمها. من محالهم المنهوبة. من أرزاقهم التي تبددت في دورهم ومحالهم، خصوصاً من الرصاص الذي ثقب معظم بيوتهم، ومن الزجاج المتكسر في كل دار ودكان.

جاءتهم الحقيقة المرة من عيون أطفالهم المرعوبة. الصغار الخائفون من الخروج إلى الدور والمصاطب. من الأبواب المقفلة على نزوح الآلاف من بينهم مرغمين على ترك أرضهم ليتشردوا في مختلف المناطق اللبنانية. من آثار القصف الذي لم يترك ناصية أو جداراً إلا ووصمه بختم «حرب الشوارع مرت من هنا».

لكن الإجابة الأكثر حرقة بقيت في دواخلهم. في نفوسهم المجروحة. في ظهورهم حيث جاءت طعنة الغدر. في قلوبهم التي صدمت بنكران الجميل. في طيبتهم وكرمهم ونخوتهم التي قوبلت بانتهاك حرمة بلدتهم.

لم ينَم من صمد من أهالي عرسال ليل انسحاب المسلحين. وقفوا على سطوح دورهم يتأكدون من جلاء المحتلين عن أرضهم، انتظروا بلدتهم لتتحرر من الأسر. وضعوا اليد على زناد بنادقهم عندما عصف المسلحون نهباً بمحتويات المنازل وآليات «البيك آب» يحملونها معهم إلى الجرود.

مع اندحار «الدواعش»، قبل ظهر أمس، صار للعراسلة هم آخر. ساروا في شوارعهم يتأملون في وجوه الرجال النازحين. يتذكرون كيف خرجت طلائع المسلحين من المخيمات التي تبرعوا بأراضيهم لبنائها وإيوائهم. خرجوا من بيوتهم التي لم يبخلوا بها عليهم. من المحال التي فتحوها. من الفم العرسالي الذي ضحى بلقمة الخبز لضيفه. خرجوا ليجتاحوا عرسال قبل وصول الدعم إليهم من مسلحي الجرود البعيدة.

تفرسوا في وجوه ضيوفهم الذين صاروا فجأة ملثّمين ومخفيي الهوية، وهم يستبيحون البلدة التي حضنتهم. سؤال الناس «كيف لنا أن نتعايش مع هؤلاء اليوم وغداً؟ كيف سنثق بهم، كيف سنتعامل معهم؟ والأهم كيف نعالج ذيول ما جرى، ومن يضمن عدم تكراره؟».

سأل العراسلة عن جنود الجيش والدرك المخطوفين، وكأنهم ينتظرون تحريرهم لتكتمل فرحتهم. استكانوا بحذر لاختفاء المسلحين المفاجئ من بينهم. إلى توقف القصف والقنص والقنابل، والأهم إلى فكرة انتشار الجيش في عرسال وإمساك أمنها كاملاً، وكيف سيتمّ التعامل مع قلة قليلة من رجال عرسال ممن ساندوا المسلحين وتعاملوا معهم ضد أهلهم؟

بالأمس، لم تمسح عرسال آثار العدوان عليها. عاشت خروجها من عنق البركان. بُعيد منتصف ليل الأربعاء ـ الخميس الماضي، انسحب عناصر «كتيبة الفاروق» و«لواء أحرار القلمون» و«الكتيبة الخضراء» (معظم عناصرها من الغرباء)، وفق ما يؤكد مختار عرسال عبد الحميد عزالدين.

بين الساعة الرابعة فجراً والسادسة صباحاً (أمس)، انسحب مسلحو «النصرة» نحو الجرود من معبر وادي الحصن الذي أخلاه الجيش في بداية المواجهات. ويروي أحد ابناء عرسال إحصاءه أكثر من مئتي آلية «بيك آب» ورباعية الدفع عبرت حاملة هؤلاء.

المفاجأة جاءت عند الصباح. «لم يترك هؤلاء سيارة «بيك آب» إلا وسرقوها. يقول المختار عز الدين إن جيرانه تمترسوا بسلاحهم قرب ثلاثة «بيك آبات» حتى ردّوا اللصوص عنها. تحدثوا عن خلافات رصدوها بين «النصرة» و«داعش» التي كانت تريد البقاء في عرسال.

وروى بعض الأهالي ممن أتوا من الجرود لـ«السفير» أنهم شاهدوا مجموعات كبيرة من المسلحين تنسحب باتجاه جرد «رأس تنية الراس»، أي جرد عرسال المتاخم لجرد بلدة رأس بعلبك، ومن تلك المنطقة باتجاه جبال «حلايم» التي تشكل حدود جرود عرسال مع «قارة» السورية من جهة الشرق.

أوت الجرود أمس ما لا يقل عن خمسمئة نازح من عرسال، فضلاً عن نازحي المخيمات السورية، فيما انتظر السوريون في الجرود بانتظار إعادتهم إلى بلادهم ضمن القوافل التي تنظمها الأم أغنس مريم للصليب من دير الروم الكاثوليك في بلدة قارة السورية.

لم تلملم عرسال أضرارها، أمس. هي فقط استفاقت على صدمتها. على نكبتها ووجعها. على أسئلة ما بعد الاحتلال والاستباحة. على أسئلة الذات ومعها ضرورة ترتيب البيت الداخلي.

أمس، علا صوت أهالي عرسال مطالبين الدولة باعتبارها منطقة منكوبة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وتفعيل كل مؤسساتها العامة، والبدء بإحصاء الأضرار لدفع التعويضات للمواطنين، وإعادة الكهرباء إليها بعد تدمير معظم المحولات فيها ليتسنى لهم ضخ المياه المعدومة في البلدة.

ولكن أهم ما يريده الأهالي، «ليس مواد غذائية وخبزاً، بل الأمن والجيش المدعوم الذي يمسك بأمن عرسال بقبضة من حديد، وبتنظيم مخيمات النازحين والإشراف عليها، وضبط الجرود، خصوصاً التوقف عن إدارة الظهر لعرسال على الصعد كافة. نحن من قلب هذا الوطن ولسنا أبناء جارية»، كما يقول المختار عز الدين.

أمنيات تبقى رهن مجهول الهدنة الهشة التي خرقت أمس بالقنص الذي مارسه المسلحون على طريق البلدة وشلّ حركتها نسبياً، فيما بقي معظم النازحين من أهلها خارجها للسبب عينه.

36 عسكرياً مفقوداً

وقالت مصادر أمنية لـ«السفير» إن 36 عسكرياً ما زالوا في عداد المفقودين، بينهم 19 من الجيش اللبناني و17 من قوى الأمن الداخلي.

وكانت المجموعات المسلحة قد خطفت عند بدء المعارك 42 عسكرياً (22 جندياً من الجيش و20 عنصراً من قوى الأمن)، وأفرجت قبل انسحابها عن 3 جنود من الجيش و3 عناصر في قوى الأمن.

ولم تتمكن الأجهزة العسكرية والأمنية من تحديد هوية الجهة الخاطفة، أكانت «النصرة» أو «داعش» أو جهة ثالثة، أم أنهم يتوزعون على أكثر من مجموعة، الأمر الذي من شأنه أن يعقد أية مفاوضات في المرحلة المقبلة.

وحول المفاوضات الجارية بين «هيئة علماء المسلمين» و«النصرة»، قال مصدر معني «إذا صحّ أن المسلحين أخرجوا العسكريين منذ الساعات الأولى خارج عرسال، فكيف أعلنت «هيئة العلماء» أن لدى المسلحين عشرة عسكريين فقط؟»، وسأل عما «إذا كانت الهيئة تفاوض لمصلحة الدولة اللبنانية، أم لتحسين شروط الإرهابيين؟».

في هذا الوقت، أكد قائد الجيش العماد جان قهوجي أن قرار المؤسسة العسكرية الملحّ حالياً هو استرداد العسكريين بأي ثمن والجيش لن يترك هذا الأمر أبداً. مشدداً على ان لا تعايش مع الارهابيين لا في عرسال ولا في جردها ولا في أي مكان من لبنان.

وفي السياق ذاته، اكد رئيس المجلس النيابي نبيه بري أمام زواره ان ما بعد عرسال ليس كما قبله، الا انه دعا الى التحوّط لأن عملية الغدر التي تعرض لها الجيش اللبناني، يمكن ان تتكرر في عرسال او خارجها، رافضاً «أي شكل من أشكال المقايضة مع الإرهابيين في ما خص الرهائن من العسكريين»، وقال: ربما نكون امام اعزاز جديدة، وكما رفضنا المساومة في هذا الملف، نرفض المساومة الآن.

بدوره، أكد رئيس الحكومة تمام سلام أن موقف السلطة السياسية داعم بالكامل للقوى المسلحة، ورافض لأي تساهل أو تراخٍ مع مَن انتهك سيادة لبنان واعتدى على اللبنانيين. مشدّداً على فتح نقاش جدي وهادئ داخل الحكومة حول ما جرى والظروف الأمنية والسياسية التي أحاطت به، آملاً التوصل الى مزيد من التوافقات لتحصين الأمن الوطني وحماية الاستقرار الداخلي ومنع تكرار ما حصل في عرسال.