يتمدَّد الفراغ، ويتمدَّد معه البحث في توزيع السلطات والصلاحيات، والدستور، والنظام الإقتصادي والمالي. في المجالس هواجس، والمصارحة والمكاشفة في مأزق.
في ظلّ الفراغ، يبحث المجلس النيابي عن مخارج لسلسلة الرتب والرواتب. وفي معزل عن النتائج، فإنّ المنطلقات خاطئة: قامت النهضة الإقتصادية في سنغافورة على التوازن الدقيق بين ما يقدّمه المواطن إلى الدولة وما تقدّمه الدولة إلى المواطن. هكذا الحال في الصين، واليابان، أما التحديث والإبتكار فحلّا في المرتبة الثانية. وعندما تكون الأساسات صلبة تُبنى عليها الشواهق. نظريّة اللبنانيّين مختلفة وتقوم على التوازن بين النفقات والعائدات، إنها نظريّة التاجر، أو المقاول، أما الدولة القوية القادرة والعادلة فلها معادلة مغايرة تقوم على المساءلة والمحاسبة والشفافية.
في الكواليس الديبلوماسيّة، مآخذ ثلاثة:
الأول، من المفيد والضروري أن يكون هناك توازن دقيق ما بين العائدات والنفقات، ولكن ماذا عن الفساد؟ حتى الآن هناك كثير من التنظير وقليل من الفعل، لا بل إنّ بعض ما يجري إنما يؤدي إما الى تشريعه، او الى الإقرار به كحال مستمرّة داخل مجتمع، ولاؤه لجيبه قبل أن يكون ولاؤه للوطن، يستفيد من ضرع الدولة، ويُمعن بالمؤسسات مستقوياً بالمحسوبيّة والمذهبيّة والفئويّة. أصل العلّة في الأداء، هناك دستور، وقواعد، وقوانين، وهناك فلتان سائد على خلفيّة أنّ الدولة «بقرة حلوب، يجب أن تدرّ بإستمرار، ومن سبق غنم، ومن تمكّن، تمكّن». يضحك أحد السفراء في مجلسه ويقول: «صحيح أنّ الإستقرار في لبنان إلتزام دوليّ، ولكنّ شركات الخدمات الأمنيّة لا مصلحة لها في أن يكون مثاليّا!».
الثاني، حشد الموظفين غير المنتجين في كثير من الإدارات الرسميّة. ثلاثون أُستاذاً في مدرسة رسميّة إبتدائيّة مقابل 15 تلميذاً! قطاعات واسعة تدفع رواتب لموظفين لا يعبرون عتبة الوظيفة إلّا مرة واحدة في الشهر! إزدواجيّة مريبة في المؤسسات لتبرير الهدر، وزارة أشغال، ويوازيها مجلس لتنفيذ المشاريع. ووزارة للشؤون الإجتماعيّة، الى جانبها هيئة عليا للإغاثة… والمحصلة تعميم الفساد، وتبرير الهدر، وحشر الأزلام والمحاسيب على حساب النوعيّة والإنتاجيّة، في حين أنّ الدمج، وتوسيع نطاق الصلاحيات أمر ممكن.
الثالث، ترشيد الإدارة وإعادة النظر في الدوام والإنتاجيّة. هناك دراسات عدّة أعدَّتها منظمات دوليّة، ومراكز بحوث، لكنّ الإرادة غير متوافرة، والخلل على مستوى الإدارة يُغطّيه خلل أكبر يتَّصل بالمحاصصات الفئويّة والمذهبيّة، فالدولة أقرب الى الشركة المتحرّرة من المحاسبة والمراقبة، لا يحكمها قانون بمقدار ما يسودها الفلتان.
ويشكل الدخول الى السلسلة، دخولاً الى جوف النظام الإقتصادي – المالي، والخلل الحقيقي ليس في القانون بل في تطبيقه، والحلّ ليس في الهروب من المناصفة الى المثالثة بل في تطبيق الدستور بشفافيّة، وعندما يكون هناك نظام، يكون هناك إنتظام عام، والقانون وحده عندما يُطبَّق، ينقل المواطن من مربع المذهبيّة الى المواطنية، ومن الولاء للزعيم الى الولاء للدولة، وهذا ما لا تريده غالبية الطبقة السياسيّة المتحكمة بمصير البلاد والعباد.
الدخول الى سلسلة الرتب والرواتب، إنما هو الدخول الى الإصلاح بمعناه الواسع. قد لا تغيّر مكتسبات السلسلة كثيراً من الواقع الإجتماعي – المعيشي، لأنّ العودة الى التضخّم والعجز تصبح حتمية في ظلّ الفساد المستشري، والعلة ليست في الطائف بل في تطبيقه، والحل لا يكون بالمثالثة هرباً من المناصفة، بل في الشفافية والمساواة، ولا يصحّ بعد اليوم الجمع بين مواطن يدفع فاتورة الكهرباء، وآخر يستفيد منها مجاناً، وبين مَن يدفع الضرائب، ومَن يتنصّل منها، فيما هو المستفيد الأول من الخدمات!
بين الفراغ الرئاسي، والفراغ السياسي، يتمدَّد الفراغ الإقتصادي، والوضع المعيشي لم يعد وجهة نظر، هناك إحتقانٌ إجتماعي إذا ما إنفجر قد يكون البداية نحو التغيير، وربما قد يكون مطلوباً من جهات معينة، لإحداث التغيير.