IMLebanon

الشغور الرئاسي في لبنان والدور المأمول لبكركي

في لبنان حدث ثلاث مرات أن أصبح رئيس الجمهورية عسكرياً، وفي المرات الثلاث كان المسلمون متكافئين في قوة تأثيرهم، أو راجحين على المسيحيين بنسبة أو بأخرى، ولأسباب داخلية وخارجية متبادلة التأثير، وإن كان الخارجي منها اقوى.

هذا حصل مع فؤاد شهاب الذي كان محكوماً بضرورة المشاركة وإزالة الغبن عن المسلمين عموماً والسنة خصوصاً، الشعار الذي رفعته المعارضة السياسية والمسلحة عام 1958 مع يافطاتها ضد حلف السنتو ثم حلف بغداد وكميل شمعون. كما كان محكوماً بدولة الوحدة على حدوده، ونفوذ جمال عبد الناصر العميق والعاقل في لبنان. وكانت المسالة مع فؤاد شهاب محلولة، الى حصول حركة بعض القوميين السوريين الرعناء والمستعجلة، فأتاحت للعسكرتاريا في شقها المخابراتي ان تمسك بزمام الأمور والرقاب وتجمد الشق المدني والمؤسساتي والديموقراطي، من عقل وعمل الرئيس فؤاد شهاب.

ولعل أهم ما تجلت فيه نزعة العسكري فؤاد شهاب الى الديموقراطية، أو تسييس العسكرية، هو أمر سلبي جداً في نتائجه، وهو إخلاء السبيل للأكثر نزوعاً الى الطائفية في الوسط المسيحي، في السياسة ليحتلوا مواقع مقررة في مؤسسات الدولة، والبرلمان خاصة .

هذا الى استنكاف فؤاد شهاب عن الزعامة. بلى كان هناك تيار واسع من القواعد والكوادر والقيادات اللبنانية ذات صبغة شهابية واضحة، فاتحة أو فاقعة، ولكنهم في معظمهم من أهل الكفاءات وحسن الادارة، كأنهم كانوا مع الدولة لا مع الرئيس، مع النص، الدستور، الذي كان يسميه فؤاد شهاب (الكتاب) وكأنه مُنزل؟

والمرة الثانية كانت عام 1998 عندما اصبح العماد اميل لحود رئيساً للجمهورية بسبب أرجحية الصوت الاسلامي سنياً مع مشيئة النظام السوري، وشيعياً على مشيئة مركبة من النظام السوري و”حزب الله” ووهج المقاومة والخير الإيراني على الجميع، وقرار واشنطن ونشاط (مارتن انديك) بمنح الرئاسة الى عسكري نجح في استثمار المساعدات على ترميم المؤسسة بحرفية مشهودة، من دون أن يكون محتفياً بالشأن العام او السياسي إلا بمقدار ما يجمع ويحفظ الوحدة بين الرئاستين (الجيش والجمهورية).

ومن موقع التماسك، تراخت الدولة في مفاصلها ومؤسساتها، واصبح وكأنه من المطلوب والملحّ تحويل الرئاسة مجرد تشريف من دون تكليفها أو السماح لها بالتكليف.

مع الرئيس العماد ميشال سليمان، صار الأقوى أقوى، وبدا أن النظام السوري الذي أخرج من لبنان، لم يخرج، يفكر بالعودة، ويفكر مستضيفوه الجدد وشركاؤه، بإعادته، لأنهم أصبحوا من القوة بحيث يضمنون حمايته. وكانت فرصة الانتفاضة السورية، مغطاة بكثافة من الكلام عن خطر التطرف السني السوري، على الاعتدال الشيعي، الذي قرر حماية الشيعة من البوابة السورية في دمشق!

هنا فكر الأقوى ملياً. فرأى أنه إذا رجح عسكرياً محضاً للرئاسة فقد يستثير حتى أصدقاءه، ووافق على رئيس عسكري ميداني يقرأ ويصغي ويتكلم بهدوء وليس معصوماً أو شخصاً خارقاً للعادة. محاور طموح ابن طبقة متوسطة ومدنية غير معروفة بالعصبية، قليل الكلام ولكنه لا يشكو من وعي. واشتغلت العملية السياسية اربع سنوات على الاقل، جدلاً وسجالاً وحواراً، من دون أن تكون فاعلة في منع تدهور الدولة ووقوعها حلقة حلقة في يد الأقوى الذي عاد فاستقوى بتدخله في سوريا وحسم أمره ولم يعد يكتفي بالرئيس محاوراً. أراده مذعناً، فرجحت إرادة الاستقلال لدى الرئيس ميشال سليمان على إرادة الإذعان، وكان بيان بعبدا صيغة لتعديل ما تم التسليم به في لحظة حرجة ( الشعب والجيش والمقاومة ) الى الدولة التي يفترض أن لا تقبل التلفيق.

والآن… هناك ورقة عسكرية للرئاسة ، ينام عليها مدنيون وروحانيون، تعسكروا كما تعسكر… (جوزيف بروز تيتو) وأنجز مقاومته وحريته في يوغسلافيا، عندما كان مدنياً صار رقيباً مناضلاً في معركة الحرية، ثم ديكتاتوراً وحمل الصرب على رقاب الكروات والبوسنيين والكوسوفيين وأهل مقدونية والجبل الأسود. وعندما رحل وابتعد ظله. تشظت يوغسلافيا وتذابحت وانحل الاتحاد. أما نحن في لبنان فلسنا اتحاديين (فيديراليين ولا كونفيديراليين) ومن دون دولة مستقلة وسيادية، دولة تعدد وشراكة وتكافؤ، لا يبقى لنا من داع الا اذا أصبحنا جزءاً من سوريا محافظةً أو أكثر. شرطنا لأن يبقى لنا كيان هو ان تكون لنا دولة، ومن اهم شروطها أن ننتخب نوابنا ووزراءنا ورئاساتنا.

أقول هذا الكلام الان، في حالة شغور سياسي، لا عفوي من قبل المعطلين بالفعل التعطيلي الآتي من قرار تعطيلي ينتظر النتائج في سوريا والعراق. ومن قرار بالعجز والجدل المسدودة نوافذه ومنافذه.

ما يعني أننا متفقون ضمناً على تعليق لبنان. والمهم هو أن المسلمين في لبنان هم الذي يرجحون العسكري على المدني، الرئيس وحده هو الذي يحسم الأمر عندما يستفيد من رئاسته بانضباط العسكري وآفاق المدني، كما فعل الرئيس ميشال سليمان في السنة الأخيرة من رئاسته.

بناء على ذلك يصبح دور بكركي، التي ما زال لها دور، وربما يكون في آخر فرصة، يصبح دورها شأناً مارونياً عميقاً جداً، وشأناً لبنانياً ملحاً وعميقاً جداً جداً.

تجنباً للشبهات والخلط القسري الضار بين السياسي والديني، أحتاط عندما أتكلم عن الدور المأمول لبكركي، في تجنيب لبنان تداعيات الشغور الرئاسي، والتي يبدو أنها ستتكون باهظة، وقد تجعل الكيان هذه المرة فضلاً عن الصيغة، في موضع السؤال الذي قد لا تكون الإجابة عليه سهلة أو مأمونة العواقب.

وأقول: إننا نحب لبكركي المؤهلة للمساهمة في تعزيز الديموقراطية، بموجب قيامها على نظم وأعراف انتخابية، تتيح لها كما تلزمها بنسبة كافية من حرية الرأي والعمل، وحتى لا يكون إيكال مسألة انتخاب رئيس الجمهورية اليها، ولو من باب أنها ناخب كبير، حتى لا يكون ذلك إغراء لمؤسسات مماثلة، بالتدخل في مؤسسات وطنية أخرى، باعتبار أنها موزعة طائفياً. ولعل الأفضل لبكركي ولنا جميعاً في لبنان، أن توسع ورشتها التشاورية فتضم ذوي خبرة ورؤية كثراً، من دون فيض في الاسماء يصعب ضبطه أو التوفيق المنهجي بين أطرافه. من الموارنة أولاً، ومن سائر المسيحيين والمسلمين . فتكون لديها نخبة متنوعة على الحوار الهادف، لا تلغي حيثية الموارنة في كونهم أهل اختصاص إضافي أو نوعي، بشأن الرئاسة والرئيس فيكون الموارنة الطرف الأول بين متساوين. وتكون نتيجة التداول والتمحيص والشورى، مشورة أو إشارة الى تعريف رئيس مرشح من ثلاثة أو اقل بقليل أو أكثر بقليل، لبناني مسيحي ماروني وبنسب متعادلة، حتى لا يطغى محدد على آخر. على أن تكون مرجحات الإقتراح أو الترشيح الأولى، اقرب الى الكفاية والمعرفة والخبرة والاستقلالية والاعتدال والوسطية والألمعية، ومن دون إفراط أو تفريط بشيء.