IMLebanon

«الشيخ» والمهمة الصعبة في طرابلس

لم يضيّع الرئيس سعد الحريري، منذ وصوله إلى بيروت، الكثير من وقته في التقاط الـ «سلفي»، أو التخطيط لجولات جديدة فوق دراجته الهوائية. يبدو واضحاً من اجتماعاته ذات الطابع الأمني، سواء في السرايا أو مع الوفود المناطقية، أنه في مهمة عاجلة تتطلب بعض الجدّ

بعد تبرئته عونياً من «الإبراء المستحيل»، لم يعد الرئيس سعد الحريري بالنسبة الى قوى 8 آذار مايسترو فرقة التحريض المذهبي لتصفية الحسابات السياسية، وحاضن الجماعات المتطرفة في مناطق نفوذه. فمن وافق على تولي اللواء المتقاعد أشرف ريفي وزارة العدل، بعدما «طوش» جمهوره طوال سنوات بمشاركة الأخير في فبركة شهود الزور، ومن وافق على إعطاء حقيبة الداخلية للنائب نهاد المشنوق، الذي اتهمه نائب حزب الله نواف الموسوي أمام وسائل الإعلام بأنه «عميل للمخابرات»، يراهن على الحريري اليوم لتهدئة الاحتقان الذي اتهمت قوى 8 آذار الحريري طوال السنوات الماضية بتغذيته. غدا التنظير عن قدرة الحريري الاستثنائية على نزع الألغام من مناطق نفوذه شغل العونيين الشاغل، بعدما أنهكوا جمهورهم، لعامين، بالقول إن الحريريين يزرعون هذه الألغام. تستقبل قوى 8 آذار الحريري اليوم بالسعادة نفسها التي ودعته بها قبل ثلاث سنوات.

يومها، اختصر مشروع قوى 8 آذار بتحويل النائب الطرابلسي نجيب ميقاتي إلى رفيق الحريري الثاني، إلا أن ميقاتي آثر البقاء نائباً طرابلسياً على التحول إلى رئيس حكومة، فيما تجاهل سعد الحريري صعود التكفيريين على أكتاف المستقبليين إلى بعض مآذن عبرا وطرابلس وعرسال ريثما يستنجد به خصومه لإنزالهم.

المهمة الحريرية، أو إعادة إمساك الحريري بزمام المبادرة في مناطق نفوذه المفترضة، لا تبدو لمن يتجول في بعض المناطق المستقبلية شمالاً بالسهولة التي تتخيلها قوى 8 آذار. ففي طرابلس، مثلاً، تنتظر الحريري ستة تحديات يفترض به تجاوزها قبل القول إن الأمر في عاصمة الشمال له:

أولاً، تحديد طبيعة علاقته مع خصومه المفترضين، وتحديداً الرئيس نجيب ميقاتي: الاستيعاب مجدداً أم محاولة إقفال بيوتاتهم كما سبق لوالده أن فعل في بيروت. فاستمرار الأوضاع على ما هي عليه بين رئيسي الحكومة السابقين، يعني عملياً استمرارهما في البحث عن عناوين مختلفة ومناسبات لتوتير الشارع الطرابلسي، على نحو يضيع وقت القوى الأمنية ويشتت تركيزها من جهة، في ظل استنفار التكفيريين الدائم لاستغلال رقعة الفوضى هذه في أية لحظة.

خطاب الوجه المعتدل لا يلاقي الشعبية نفسها التي يلاقيها خطاب الوجه التكفيريّ

مع العلم أن ميقاتي ضحى بكل ما طمحت قوى 8 آذار إلى إلباسه إياه عندما سمّته لرئاسة حكومته الثانية في سبيل الحفاظ على نفوذه الطرابلسي. وتؤكد حركته في المدينة، منذ عدة أسابيع، التي توّجها باستحداث الصندوق الاستثماري، باستحالة رفعه الرايات البيضاء. وهو يحيط نفسه عبر المساعدات المالية على مدار العام بغالبية مشايخ المدينة ومخاتيرها وبجزء مهم من مقاتلي محاورها، ولن يتردد في أن يفعل بغيره ما فعلوه به طوال مدة وجوده في السرايا. أما المصادر الحريرية، فتؤكد أن لقاء الحريري وميقاتي على هامش انتخابات دار الافتاء كان بروتوكولياً فحسب، ولم يُظهر الحريري، حتى أمام أقرب المقربين إليه، نية لفتح صفحة جديدة. برغم ذلك، يبدو واضحاً في الخطاب المستقبلي المستجد الفصل بين ميقاتي كواحد من السياسيين الطرابلسيين، وميقاتي المرشح للحلول محل آل الحريري في رئاسة حكومة لبنان. باختصار، لا يمكن الحريري السعي لترتيب بيته الطرابلسي من دون التنسيق مع ميقاتي؛ لن يضع شيئا في مكان حتى يكتشف أن ميقاتي نقله إلى مكان آخر.

ثانياً، طي صفحة الخلافات والمزايدات ومحاولات إثبات الوجود بين نوابه السابقين والحاليين والمستقبليين، مع كل ما ميّز هذه الصفحة من تحريض مذهبي لاستقطاب الزعران وتحريضهم على الشغب، للظهور أمام الحريري بمظهر القادرين لاحقاً على ضبط الشارع. ويواجه الحريري مشكلة حقيقية هنا: لا يمكن تيار المستقبل، مهما كانت التحالفات في المدينة، الفوز بأكثر من ثلاثة مقاعد من أصل المقاعد الخمسة السنية في المدينة (لديه اليوم مقعدان: سمير الجسر ومحمد كبارة). ويبدو محسوماً لمسؤولي المستقبل أن مقعدين مستقبليين سيذهبان إلى كل من الوزير أشرف ريفي والجسر. ويبقى بالتالي مقعد واحد لكل من كبارة والنائب السابق مصطفى علوش. مع العلم أن ريفي تغلغل في البيئة الناخبة لكبارة، لكن قوة الأخير التجييرية للائحة الحريرية تبقى أكبر من قوة علوش التجييرية في حال وجود معركة. وسيؤدي استبعاد كبارة إلى حرد شقيقه المسؤول السابق عن تيار المستقبل في الشمال، كما سيخسر الحريري صوته في الاستحقاقات التصويتية النيابية المقبلة، إضافة إلى قدرة كبارة على تحريك القلاقل في وجه الحريري عبر أهالي الموقوفين في السجون الإسلامية وغيرهم. أما استبعاد علوش، عرّاب البنية التنظيمية لتيار المستقبل في طرابلس اليوم، فيمثل ضربة قوية لمسيرة الطبيب الطرابلسي السياسية، إذ لا يمكن من يُستبعد دورتين متتاليتين أن يحافظ على حضوره السياسي أو يطمح بالعودة إلى المجلس النيابي مجدداً.

ثالثاً، تحقيق تقدم في عدة ملفات إنمائية وقضائية، يتقدمها ملف الموقوفين الإسلاميين وقادة المحاور لسحب الذرائع من استخدام الشارع. وهو ما كان يفترض بالرئيس ميقاتي فعله قبل أكثر من عامين، لكن لا أحد يعلم السبب الحقيقيّ لعدوله عنه.

رابعاً، إنعاش تياره. وتشير المعطيات المستقبلية هنا إلى نجاح منسق عام التيار أحمد الحريري في وضع الهيكلية التنظيمية الجديدة موضع التنفيذ، وتعيين مسؤولين في غالبية الدوائر والهيئات، على مستوى الأحياء لا اللجان المركزية فحسب. وبرغم الشح المالي والتهميش السياسي، واظب الحزبيون على عقد اجتماعات شبه أسبوعية، لكن حركتهم بقيت هامدة جداً، وعجز الحزب عن استقطاب عدد محازبين يتيح لمنسقه العام الكشف عنه من دون خجل. ويكفي هنا التسجيل أن كل ما فعله حزب رفيق الحريري في العامين الماضيين في مدينة طرابلس كان طلي بعض الجدران لتزيينها بصور سعد الحريري وتوزيع مساعدة مالية بقيمة مئتي ألف ليرة لخمسة عشر ألف مستفيد. إضافة إلى توزيع علبة شوكولا وبطاقة معايدة أخيراً على بعض المحظيين بمناسبة عيد الفطر. مع العلم أن عودة الحريري ضخت سريعاً الدم في شرايين المحازبين. ومن لم يصدف مرورهم في شارع مدينتهم الرئيسي طوال الأعوام الثلاثة الماضية، تذكروا الآن مكتب حزبهم، ولا يتوقف رنين الهاتف ليحجز المتصلون مقعداً في الباصات المتجهة إلى بيت الوسط، إلا أن الصورة هنا أيضاً ليست بالوردية التي يتخيلها كثيرون، فمن يقارن بين الانتخابات النقابية المختلفة في المدينة والانتخابات الطلابية في كليات الجامعة اللبنانية، يلاحظ أن من كانوا يعجزون عن انتزاع مقعد واحد من المستقبل في المجالس التمثيلية للكليات، يحظون اليوم بأكثرية المندوبين، إضافة إلى استغلال خصوم المستقبل، وخصوصاً في طرابلس، التململ الشعبي من غياب الزعيم لاستقطاب نشطاء سابقين في التيار بوسائل مختلفة.

خامساً، الانفتاح مجدداً على فعاليات المدينة. وهو ما يمكن الحريري بسهولة فعله. فمفتي المدينة مالك الشعار لن يستعيد قريباً حماسته المستقبلية بعدما تجاهل الحريريون رغباته في انتخابه مفتياً للجمهورية، إلا أن اجتماعاً صغيراً مع الحريري كان كفيلاً بتبديد كل مآخذه. وهو ما ينتظره رئيس المجلس البلدي وعدة نقابيين سابقين ومسؤولين أمنيين ونشطاء في مختلف المجالات.

سادساً، عزل المجموعات التكفيرية، سواء في بعض الجوامع والمدارس الدينية عبر رفع الغطاء الديني عنها بالتنسيق مع مفتيي الجمهورية والشمال، أو في الأوساط الشعبية عبر استقطاب تيار المستقبل من يسعون لاستقطابهم، إضافة إلى الفصل على نحو أوضح بين التكفيريين وقادة المحاور وبيئتهم غير التكفيرية، فلا تعود الجبهتان مترابطتين. مع العلم أن التكفيريين الجديين آثروا التفرج على قادة المحاور طوال الجولات العشرين القتالية، فيما هم يتوقعون مؤازرة «زعران المحاور» لهم في أية مواجهة محتملة. ومهما كان الجهد الذي سيبذله الحريري هنا، فلا يمكنه النجاح ما لم يقطع خطوط الإمداد المالي لهؤلاء. مع الأخذ في الاعتبار أن تمويل الداعشيين غدا شبه ذاتي، ولن يتأثروا بالعزل الماليّ المفترض، إضافة إلى أن جزءاً مهماً من التمويل الخليجي للمنظمات الإرهابية يجري، وفقاً للصحافة الغربية، عبر أفراد متحمسين، لا الدول وأجهزة الاستخبارات.

ليست مهمة سهلة تلك التي تنتظر الرئيس سعد الحريري؛ وخصوصاً أن خطاب الوجه المعتدل لا يلاقي الشعبية نفسها التي يلاقيها خطاب الوجه التكفيريّ سياسياً. وهو يقدم هذه المرة، بعدما دفع غالياً ثمن أخطائه السابقة، مدركاً أن السعودية سمحت له بأن يجرب حظه مرة ثالثة، إلا أن تعثره مجدداً سيكون ثابتاً. وبناء على هذا، يفترض أن يكون مستعداً لتقديم كل ما من شأنه ضمان نجاحه؛ حتى لو استدعى ذلك منه السير على خطى والده.

«داعش» تعيد الحريري

يشير وزير سابق إلى أن النائب وليد جنبلاط أدى دوراً ما، ربما، في عودة الرئيس سعد الحريري، إلا أن القرار الأمني والسياسي أكبر بكثير من أن تنتجه أمسيات محلية مهما كانت ضماناتها، وتستغرق الاستعدادات الأمنية والمالية لتنفيذ هذا القرار مدة أطول بكثير من تلك الفاصلة بين تسوية عرسال وعودة الحريري؛ هذا لا يحصل خلال 24 ساعة. مع العلم أن الحريري كان قد استدعى إلى مكان إقامته في جدة، قبل أكثر من أسبوعين، عدة نواب ومسؤولين حريريين ليطلب منهم تبريد الخلافات بين بعضهم بعضا، وليستفسر عن بعض القضايا المستقبلية على نحو يضعه أحد النواب الحريريين اليوم في سياق الإعداد للعودة. ويرجح أن تكون عودة الحريري، قد سُرعت بعد المعلومات المتداولة بين بعض الأجهزة الأمنية عن اعتراف الموقوف السوري عماد جمعة بتخطيط «داعش» للسيطرة على الساحل الشماليّ للبنان (عكار – المنية – طرابلس) عبر اجتياح سريع انطلاقاً من عرسال لعدة بلدات مسيحية وشيعية يعتقد التنظيم التكفيري أن وجود حزب الله العسكري فيها ضعيف. ومهما كانت الأحاديث عن علاقة استخبارية للسعودية بهذا التنظيم، واستفادة سعودية مباشرة منه في سياق محاولتها تعديل ميزان القوى ولو قليلاً بينها وبين إيران، لا يمكن رعاة المملكة الدوليين تخيّل تمدد «الدولة الإسلامية» أكثر فأكثر، حتى لو أدى ذلك إلى شغل حزب الله ونقل المعركة من المناطق السنية إلى مناطقه. ويشير مصدر أمني إلى أن الرواية المتداولة عن اعترافات جمعة، غير المؤكدة بعد، مثلت عامل ضغط أمني وسياسي على مختلف المعنيين باستقرار البلد، وازدادت صدقيتها بعد الزحف التكفيري نحو عرسال، ورصد عدة محاولات سلفية في الشمال لشغل الجيش وتشتيته على عدة جبهات.

سبحان مغيّر الأحوال

تفوقت قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر على نفسيهما هذه المرة. فالنواب أحمد فتفت وعمار الحوري ومحمد الحجار وخالد زهرمان يتسمرون أمام زملائهم في المقلب السياسي الآخر منذهلين، عاجزين عن مجاراتهم في مدح الرئيس سعد الحريري وإغداقه بالصفات العظيمة والفضائل والنعم. ها هو النائب حكمت ديب يقول الآن إن الحريري «عاد لتغليب صوت الاعتدال». زميله في تكتل التغيير والإصلاح النائب فريد الخازن يوافقه الرأي ويضيف: «هو سيصحح الخلل، ليس في تيار المستقبل فقط، بل على مستوى العالم الإسلامي كله». يلاقيهما عضو كتلة التحرير والتنمية النائب ميشال موسى: «عودة الحريري ستفعّل العمل السياسي». والختام مع عضو كتلة المردة النائب إميل رحمة، الذي يعتقد بان عودة الحريري ستعيد الاعتدال و«لبننة» الساحة السنية. وفي ظل غياب رحمة عن السمع، لم يتسن لـ «الأخبار» التأكد من دقة ما نسبته اليه بعض المواقع الإلكترونية: «ما يحدث في الشرق العربي ولبنان ما كان ليحدث لو كان الحريري في لبنان».