«لا يمكن انتخاب رئيس للجمهوريّة على جُثث المؤسسات»، ولكن لا يمكن استمرار عمل المؤسسات على جثة رئاسة الجمهوريّة. المعادلة واضحة، وتكريس عرف سياسي لتبرير الفراغ أمر مرفوض، لا يمكن تحويل رئاسة الجمهوريّة حقل اختبار، ولا يمكن استمرار سائر المؤسسات في عملها، في ظلّ الفراغ الذي يستوطن رأس هرم السلطة والدولة. يحاول البعض أن يُكرّس عرفاً على هذا الصعيد، لكنّ المحاولة محفوفة بالعيوب الدستوريّة والمآخذ الميثاقيّة. بدأت محاولة شطب رئاسة الجمهوريّة من المعادلة السلطويّة – الميثاقيّة، تحت شعار «مجلس النواب سيّد نفسه». شعار ينطوي على أبعادٍ وخلفيات تتَّصل بمقاليد السلطة والحكم، والتشريع، والمحاسبة والمراقبة، والإيحاء بأنّ المجلس قادر على اختزال المؤسسات الأخرى والنيابة عنها، والحلول مكانها إذا ما اقتضت الحاجة والضرورة. وقد بدأ فعل التهميش للموقع والدور مع اختزال الصلاحيات وفق ما نصّ عليه اتفاق الطائف، وجَرت محاولة نافرة بعيد الانسحاب السوري من لبنان، مع نهاية عهد الرئيس إميل لحود، وقرَّر «حزب الله» تجديد المحاولة مع نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان، عندما تحدّث عن المعادلة الخشبيّة، واليوم هناك محاولة لتكريس عرف على حساب الدستور وأيضاً على حساب الصيغة والميثاق، إنطلاقاً من أنّ الانتخابات الرئاسيّة لم تعد أولويّة، بل عمل سائر المؤسسات الأخرى، بحجّة الحرص على مصالح الناس. ويتبدّل النقاش، وتتبدَّل معه الأولويات، وتصبح الأفضليّة للنظام وليس لانتخاب رئيس. يوزّع النائب وليد جنبلاط المواصفات حول الرئيس القوي، والفيتوات حول من يريد ومن لا يريد من الأسماء. صديقه الأمير طلال إرسلان يريد نظاماً رئاسيّاً، وانتخاب رئيس من الشعب. اللواء جميل السيّد يريد تكريس الفدراليّة بدلاً من الاستمرار في التكاذب. كان إطلاق اللامركزيّة الإداريّة فعلاً ناقصاً، ويحتاج الى قرار شجاع، لتكن هناك فدرلة في دولة إتحاديّة. «حزب الله» لا يريد رئيساً يحميه، بل يريد هو حماية الرئيس، وبكلام أوضح «نريد رئيساً وفق المواصفات التي نحددها، أو تفضّلوا الى المؤتمر التأسيسي لنسمّي الأمور بأسمائها!». بكركي ليست بعيدة عن هذا المناخ، كانت الدعوة الى عقد اجتماعيّ جديد، مترافقة ومتلازمة مع مواقف كثيرة أطلقها البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في مناسبات عدة، قد تلتقي بشكل أو بآخر مع «حزب الله»، ولكن ليس على الموجة عينها. حاول الرئيس ميشال سليمان تقريب المسافات بدلاً من الذهاب بعيداً نحو طائف آخر، وأطلق سلسلة تعديلات يجب إدخالها على الطائف المترنّح، ووافاه جنبلاط حتى منتصف الطريق متمسّكاً بالإتفاق، لكن بعد منح رئيس الجمهورية ما يحتاج من لوازم دستوريّة ليتمكن من لعب دور الحكم. حتى هذا «المنصب الفخري» يرفضه «حزب الله»، ذهب السيّد حسن نصرالله مباشرة الى المثالثة بحجّة «أن الفرنسييّن قد عرضوها، والإيرانيّين رفضوها». ولا يبقى مهمّاً من عَرض ومن رفض، لأنّ الطرح عقيم في جوهره، ويتنافى وعلّة وجود لبنان، والمسألة ليست مسألة أقليات او أكثريات، لأنّ الورم الذي يصيب اليوم بعض الطوائف، قد يصيب أخرى غداً، وطبقاً لتقلّبات الظروف في المنطقة، و»داعش» التي بدأت تتمدَّد في العراق، قد تفعل في سوريا أيضاً، وربما يصيب رذاذها لبنان، وهي حاضرة مع أخواتها من المنظمات الأصوليّة الأخرى، عبر خلايا منتشرة على امتداد الحدود اللبنانية السوريّة. أصبح الطائف صيغة مقبولة بعدما ضمن مصالح الفعاليات، وحَماها تحت مظلّته. وأبصرَ اتفاق الدوحة النور بعدما اطمأنّت الفعاليات الى مصالحها طوال عهد سليمان، والآن تنتظر مَن يبيع ويشتري طائفاً جديداً لإخراج الاستحقاق الرئاسي من عنق الفراغ، لتضمن مصالحها للسنوات الست المقبلة!