IMLebanon

الطريق إلى الموصل

العام 1925 وعدت بريطانيا أشوريي العراق وأوائل سكانه، بدولة في الموصل، بعدما تعرَّضوا لمذابح وشرائد، مثل الأرمن، بفظاعة متساوية وحجم أقل. ولكن في العام نفسه أبلغ السفير البريطاني بطريرك الطائفة، أسف صاحب الجلالة واعتذار الإمبراطورية. هاجرَ مسيحيو العراق والموصل إلى حيث يُقبلون. ومَن بقي منهم حتى الأمس، مواطناً من الدرجة الثانية، جاءته داعش بأعلامها السود وبثيابها السود وقبعاتها السود.

يقول الروائي الجزائري واسيني الأعرج (“القدس العربي”، 25 تموز) إن مسيحيي العالم العربي كانوا دائماً أمام خيارين: الحقيبة أو النعش. ويستخدم التعبير الفرنسي الدارج في بلاده:

“La valise ou le cerceuil”.

لكن حصر المسألة بالأيام الأخيرة للمسيحيين في الشرق يفتقر إلى دقة الرؤية للمشهد العام. فالمشهد العام أقرب إلى سفْر الرؤيا والعويل التوراتي الذي ألصق شرور البشر برغبة الهية. حتى إن المسيح المضطّهد الذي وقع في يدي قاضٍ يخاف السلطة ويرتشي من التجار، استسلم وأرجع الدناءة إلى إرادة خفية: ما كُتب قد كُتب.

أحياناً، يكون الاستسلام هو كل ما تبقّى. وابن الإنسان يملّ في ساعاته الأخيرة من الدعوة إلى النور، والكرز بمخافة الله. بين 1925 واليوم، سوف يهاجر جميع آشوريي وكلدان الموصل التي حلموا بها ذات مرحلة عاصمة وملجأ بين تنويعات الشرق وتعدّدات بلاد ما بين النهرين. المشهد مثل علامات الساعة: تقوم دولة على دولة وطائفة على طائفة وتتحوّل روضات الأطفال محارق وتلفّ بالبلاستيك الرخيص: في غزة أو في الرقّة، فيقول أمين معلوف “يجب أن نصمت عندما ينام الأطفال لا عندما يُذبحون”. لا يستطيع المسيحيون أن ينادوا على أحد. فهم ليسوا سوى تفصيل بسيط في علامات القيامة. ثم أن أمامهم قضية أكثر خطورة وعجلة يواجهون لحظاتها الأخيرة: النواب أولاً أم الرئيس أولاً. انتخاب من الشعب (جنابكم) أو من ممثليكم؟ سفر الرؤيا أم مراثي أرميا. لكن أكثر الناس لا يتعثّرون، تقول الآية.

قبل أسابيع وقف البابا فرنسيس (فرانسيسكو للأصدقاء) يدعو للصلاة من أجل المهاجرين غير الشرعيين في ميناء لامبيدوسا الإيطالي. لماذا التدخّل في شؤون الدولة؟ لأن الأكثرية الساحقة من المهاجرين مسلمون من فقراء المغرب العربي، حيث راجت – بسبب الاستعمار – الجملة الشهيرة: “La valise ou le cerceuil”.

لكن المغرب العربي هو أيضاً بلاد رجال مثل واسيني الأعرج، يخشون، بل يخافون على نسيج الأمة، وأن تصبح أمة المُطارَدين والمشتّتين والتائهين في الموانئ الغربية والخيام المُوحلة مثل حال العرب اليوم، من جميع الملل والنحل.

صحيح أن المسيحيين في معضلة، لكنهم مجرد جزء منها. والسذّج وحدهم يُصدّقون أن للدين علاقة بهذا الجحيم السياسي. كل صراع في الأرض هو صراع إيديولوجي دوغمائي. فالناس لا يمكن أن تختلف على لون الشجر ومعدل تساقط الأمطار، لكنها لا يمكن أن تتفق على أي موضوع سياسي. فالسياسة هي الكسب، هي السلطة، هي الموقع، هي مدخل الثروة. الاتفاق صعب. والشهوة أقوى من الروح.

ويجب أن تلاحظ أن الصراع القائم في الشرق هو صراع خالٍ من القيم الأخلاقية والإنسانية حتى كشعار ورقي. تقول المستشارة أنغيلا ميركل، التي نشأت في “الجمهورية الديموقراطية الألمانية” أيام فالتر أولبريشت، أن أي سعي بشري لا يتضمن طلب الحرية، هو سعي لا قيمة له. لا قيم في العالم العربي ولا قيمة لشيء. حفلة مصارعة على الطريقة الرومانية، والجماهير تشير بإبهامها إلى تحت: اقتله.

“داعش” ليست ظاهرة طائفية، إنها ظاهرة مرَضية مثل الظواهر الأخرى التي أفرزها المجتمع العربي. الملوّث بغبار القتل والموت والانتحار والعدم.

يتذكّر جيلنا ساطع الحصري على أنه رائد من روّاد القومية العربية. وُلد في اليمن ودرَس في الآستانة وعلَّم في بغداد وعاش في دمشق وطفَق في عواصم العرب يدعو إلى النهضة والوحدة. ولكن في بغداد الحديثة أُدخلت حفيدته، ميادة، السجن (من النوع العربي) بتهمة الخيانة. ليس خيانة الوطن أو الدولة أو الأمة، بل الحزب والنظام.

في كتاب عنها بعنوان “ميادة ابنة العراق” (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) وصفٌ توثيقي لما حدث في 14 تموز 1958 عندما هجم جيش عبد الكريم قاسم على قصر الرحاب لإنهاء الحكم الملكي:

“طُلب إلى أفراد العائلة المالكة التجمّع تحت شجرة في الحديقة. وكان الملك فيصل الثاني يحيّي الضباط مرتبكاً. وفجأة قام ضابط اسمه العبوسي بإطلاق رصاصة اخترقت رأس الملك الشاب وبعدها فُتحت النيران على العائلة والخدم فقتلوا جميعاً.

بعد المجزرة سُحبت الجثث إلى سيارة “فان”، وعند بوابة حديقة القصر قفز رجل من الشارع إلى داخلها وأخذ يطعن الجثامين(…) رمى جندي للجموع جثة الوصي عبدالإله فجرّدتها من الملابس وراحت تسْحَلها عارية في شوارع بغداد إلى أن علّقتها على سياج فندق الكرخ. فهجم حشد من الناس وأخذوا يقطّعونها، بدءاً باليدين حتى القدمين، ثم أنزلوا بقايا الجثة لتُسحل إلى وزارة الدفاع وهناك طَعن شاب الجثة بحرْبة فخرجت الإمعاء فالتقطها رجل آخر ولفّها حول عُنقه وراح يرقص بين الراقصين”.

كم كان عدد سكان القصر، بمن فيهم الخدم؟ 19 شخصاً. كم عدد القصور الرئاسية في العصر الثوري؟ 48! يجب البحث عن الحضارة الداعشية في ظلام السجون العربية وغياهب السلوك الوحشي. وفي افتتاحيات الصحف الرسمية ودواوين مثقّفي السلطة الذين مجّدوا فكرة قتل الآخر وإلقائه وتحويله إلى مخلوق يمشي في نومه، مفضلاً على ذلك أن يرقد في كابوسه.

في “كليبها” الأخير (الرقم 4) عرضت “داعش” باتقان فني واضح مشاهد إعدام 38 بشرياً. قُتل أحدهم وهو يحاول الفرار. آخر وهو محاصَر في سيارته. ثالث كان في غرفة نومه عندما دخلت “داعش” وقطعت رأسه. في مشهد آخر يمر رجل حاملاً مسدسه بصف من الراكعين الموثوقي الأيدي خلف ظهورهم. يصوِّب مسدّسه إلى كل عُنق ثم يُطلق النار، وعندما يهوي الرأس في الدماء ينتقل إلى الآخر. تكراراً. ثم حاول أحد ضحاياه أن يصطنع الموت فلم ينطلِ الأمر على صاحب المسدّس. ثم مشهد آخر، ومناضلو “داعش” يُطلقون النار من سيارة في إحدى القرى، فيصوّبون على رجُلين على الرصيف، يقع الأول ويحاول الثاني الفرار. تُفرغ الرشاشات فيهما.

“فلاش باك” إلى 14 تموز 1958، عندما بدأت في العالم العربي حضارة جديدة من العمل السياسي. لم يقتل “الثوار” فقط الوصيّ على العرش ثم بقروه ثم سحلوه ثم مروا بالسيارة فوق بقاياه ثم يُقطّعونه بل قتلوا أيضاً خدَم القصر. وحدث ما هو أكثر فظاعة: انتقل القانون من أيدي القضاة إلى محمد أمين المهداوي الذي يعرف تهمة واحدة هي الخيانة وحكماً واحداً هو الإعدام. مذذاك لم يعُد حكام العراق يموتون في منازلهم.

مساكين المسيحيون إذا كانوا يعتقدون أنهم الضحية الوحيدة، أو الأخيرة. إنهم ضحية أخرى في زمن ليس فيه سوى ضحايا. ضحايا الفقر وضحايا التجاهل والتعالي والازدراء والجهل وضحايا الأمية وضحايا الطغيان الصغير والطغيان الكبير. ولكن يؤسفنا، في أي حال، أنكم ذاهبون فأنتم أناس مسالمون وعادة طيبون ولكم أخلاق الأقليات، أي السترة. ولا شيء آخر.

سيطرت “داعش” في غفلة عين على ثلث سوريا وربع العراق، مساحة تضم 6 ملايين بشري وتعادل مساحة الدانمارك وإيرلندا ونروج. فرّ أمامها جيش نوري المالكي وتراجع أمام زحفها رجال البشمركة المعروفون بالشجاعة والشراسة. وبعد ثلاث سنوات من الكرّ والفرّ رأينا فرعها الآخر، “جبهة النصرة”، ينقل الحرب على الجيش اللبناني من المتفجرات الانتحارية إلى جبهة حقيقية في عرسال. وكالعادة، فقدنا أجمل ضباطنا وجنودنا في حرب لا علاقة لنا بها. والذين استكثروا على الجيش حصوله على مساعدة ثلاثة مليارات دولار وتساءلوا عن فائدتها، أدركوا بعد عرسال ما أهمية أن يكون للدول جيوشها وللأوطان حدودها وللشعوب مَن يحمي كراماتها وأرواحها وأرزاقها وأرضها.

ما أغلظ الثرثرة فوق بحيرات الدم ومواكب النعوش والأكفان.

لا نزال نتحدث عن سايكس – بيكو. شعوب تشتغل كلها في “التحليل السياسي” وتتلاكم على التلفزيونات ولا يتردّد محلّلوها لحظة في الشتم والسبّ والتهديد إرضاء لصاحب الأمر ودَوْساً لكل معايير الذات. ما بين سياج فندق الكرخ والرجل الذي لفّ نفسه بمصارين الوصي عبدالإله وراح يرقص بها، وما بين البرامج التي تستضيف حوارات الأزقة، تُولد ثقافة لا حدود لبربريتها، فتخطف، أول ما تخطف، الإسلام، وإذ تُحلّه لنفسها ولتأويلها (اقتضاء الفتنة) تُحل كل شيء آخر: النفط والأرزاق والأمان وإيمان الآخرين وعقائدهم.

لا عيد للجيش هذه السنة ولا رئيس للبلاد. وثمة خلاف جوهري عميق على جنس الملائكة. وقد سقطت بيزنطيا قبل أن تُعرف. احذروا طريق الموصل. حاولوا مرة واحدة أن تصدّقوا المرآة. فهيَ لا تكذِّب.