IMLebanon

الطريق إلى ميشال عون تمرّ من… جونيه!

بعد أن تناولت حلقة الأمس العائلات السياسيّة والحرب وحزب الكتائب، هنا التتمة:

كان على القوّات اللبنانيّة، منذ بشير الجميّل وخصوصاً بعده، أن تموّل نفسها بنفسها.

ذاك أنّها افتقرت إلى الدعم والتمويل اللذين وفّرتهما دول كالعراق وليبيا وإيران لميليشيات المناطق الغربيّة، ما جعل وطأة القوّات على «مجتمعها المسيحيّ» ثقيلة ومباشرة.

فمنذ 1978، مع مباشرة «توحيد البندقيّة» وبناء جيش تنحلّ الميليشيات فيه، بُدئ بفرض الخوّات المنظّمة كضريبة الواحد بالألف على العمليّات العقاريّة، ووضع نظام للجباية، فضلاً عن افتتاح مؤسّسات ومجالس قضاء لديها محقّقون يتبعونها.

لكنّ ذلك رافقه توطّد في الأمن وازدهار أمّنته تجارة السلاح والمخدّرات والتهريب الواسع الذي أعقب نهب مرفأ بيروت. كذلك شرعت تنتعش صناعة الترفيه من أصغر «سناك» للوجبات السريعة إلى الكازينوات والملاهي الليليّة بأنواعها المحلّلة والمحرّمة. ذاك أنّ مسيحيّي المناطق الأخرى تدفّقوا على جونيه، من فقرائهم ومهجَّريهم إلى أغنيائهم ومستثمريهم، فيما باتت المدينة، وهي عاصمة المسيحيّين، مُطالَبة بتوفير الحاجات والخدمات التي يسعى إليها مقاتلوهم الشبّان.

فحين انتُخب بشير رئيساً للجمهوريّة، بدا للكسروانيّين أنّ تلك الصفحة طويت بحسناتها وسيّئاتها، وأنّهم كوفئوا على صبرهم المكافأة التي يستحــــقّون. لكـــنْ لا. فبشير ما لبث أن اغتيل، والـــطريق تبدّت طويلة وشاقّة ودامية أيضاً، فضلاً عن تناقضات لا تُحصى على جانبيها.

حبيقة وجعجع والشماليّون

لقد والت القوّاتِ اللبنانيّة، المولودة من رحم الكتائب والمستفيدة من شيخوختها، عائلاتٌ صغرى تشبه تلك التي والت الكتائب من قبل. أمّا العائلات الكبرى فسايرتهم بوصفهم السلطة التي تستطيع تدبير المصالح وتوزيع المغانم. ولئن لوحظ أنّ الإقبال كان في الفتوح أعلى منه في مدينة جونيه، وفي القرى الصغرى أكثر منه في تلك الأكبر، فهذا لا يلغي أنّ كسروان تحوّلت عمقاً للسلطة القوّاتيّة وقلعة لها ومجمّعاً لأسلحتها الأثقل، كما كانت استراحةَ مقاتليها تبعاً لبُعدها النسبيّ عن مصادر القصف الذي كان يستهدف المناطق الشرقيّة.

على أيّة حال، ما لبثت أن تجمّعت نُذر النقمة على القوّات الذين، كما قال لنا أكثر من كسروانيّ، «تورّطوا في أعمال قتل»، فيما هيمنوا على المنطقة صوتاً واحداً ولوناً واحداً. وإلى المعالم التي لا يزال يذكرها الكسروانيّون بوصفها الدلالة على العهد القوّاتيّ، كزحمة الأفران والسطو على بنزين المحطّات، زاد الفساد وتضاعفت الضرائب، مع أنّ التهريب المفتوح والسائب أتاح استمرار درجة ملحوظة من البحبوحة السابقة.

فوق هذا فعلت فعلها الارتدادات العنفيّة للصراعات داخل القوّات نفسها. فحين تمكّن سمير جعجع من إنزال الهزيمة بإيلي حبيقة، مطالع 1986، بات «حكم أهل الشمال غليظاً وفاقعاً».

وفيما شرعت البيوت تبدي انزعاجها من ارتفاع الضرائب، راحت الشوارع والأحياء تبدي انزعاجاً مماثلاً من تكاثر اللهجة الشماليّة. وهي حساسيّة يرى الباحث أنطوان سلامة أنّ لها سوابقها في نزاع يوسف كرم وطانيوس شاهين، وفي خلافات دائمة كانت تنشب بين أساقفة بشرّي وأساقفة كسروان.

ويُلاحَظ، في هذا المعرض، أنّ تعبير «شماليّ» يدمج البشراويّ والزغرتاويّ، من دون تمييز، على رغم ما بينهما من حساسيّة لا تقلّ عن تلك الشماليّة – الجبليّة. فيُذكر، مثلاً، أنّ نزوح الشماليّين عن كسروان، بعد جريمة قتل طوني فرنجيّة في 1978، حرّر كازينو المعاملتين من قبضتهم التي فرضوها مع انتخاب سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة قبل ثماني سنوات.

لكنّ أهل جونيه والساحل يبقون أقلّ من أهل الجرد تعبيراً عن امتعاضهم من القواتيّين والشماليّين. فمن كسروان لم يُقتل كثيرون في الحرب، حتّى أنّ الساحل بقي عمليّاً خارجها. أمّا الأفراد الذين قضوا كمقاتلين فأكثرهم من غزير ومن حراجل وباقي قرى الجرد. فوق هذا، فسكّان جونيه أقلّ انفعالاً وحدّة في التعبير، بسبب مدينيّتهم، كما بسبب مصالح ومشاريع تجاريّة على الساحل يملك الشماليّون جزءاً كبيراً منها. بيد أنّ هذا وإن خفّف الاستياء، لم يخفّف الرغبة في توكيد المسافة عن القوّات بوصفها ميليشيا لا تليق بـ «حضاريّتنا».

… وجاء المخلّص

هكذا حين كانت قبضة القوّات ثقيلة على جونيه وكسروان، ونشبت «حرب الإلغاء» في 1990 بينها وبين ميشال عون، وقف أغلب الكسروانيّين ضدّ حكّامهم، متعاطفين مع قائد الجيش السابق. وعندما أُدخل سمير جعجع السجنَ في 1993، سُرّ كسروانيّون كثيرون من غير أن يشمتوا.

فلوهلة جسّد عون الخير في مقابل الشرّ الذي جسّده لهم جعجع. ذاك أنّ أوّلهما استنطق العصبيّة الجبليّة ضدّ الشماليّين استنطاقه الاحتجاج الأخلاقيّ على القوّات. وحول عون التفّ المتضرّرون من القوّات ممّن عاهدوا أنفسهم ألاّ يقبلوا بغير السلطة الشرعيّة سلطةً وألاّ يدفعوا الضرائب لسواها. وبوصفه قائد جيش ورئيس الحكومة المسيحيّة التي خلفت عهد أمين الجميّل، حظي عون بتلك المواصفات. فمعركته مع القوّات، وفقاً لجوان حبيش رئيس بلديّة جونيه السابق، كانت «بداية تأسيسه مشروع الدولة الذي يحمله». وهذا ما عزّزه انتساب عون إلى المزاج السياسيّ نفسه الذي ينتسب إليه القوّاتيّون والكسروانيّون. فهو أيضاً حارب السوريّين وتعرّض للنفي الطويل بسبب حربه هذه، حتّى إذا عاد، عاد مرفقاً بصورة المسيحيّ القويّ الذي «لا يسير – كما يفعل جعجع – وراء سعد الحريري».

وكان المحكّ انتخابات 2005، حيث فاز الجنرال بأكثر من 38 ألف صوت، فيما نال منصور البون الذي رأس اللائحة المنافسة، أقلّ من 20 ألفاً. هكذا، وعلى نحو ذكّر بما فعله «الحلف الثلاثيّ» في 1968، بدا الانتصار من نصيب الخطّ الذي رفع لواء «الدفاع عن مصالح المسيحيّين»، بعد «حملة صليبيّة» لمواجهة «الحلف الرباعيّ» المسلم.

ولئن «استدارت سيّدة حريصا» في 1968، فقد ذهبت الخرافة في 2005 مذهب العثور على مخلّص كامل الأوصاف وعلى خلاص شامل يكون خاتمة الأحزان جميعها. فوفق النائب الخازن الذي استعار تعبيراً شهيراً لوليد جنبلاط، لفح عون المنطقة كأنّه تسونامي، فانتسب إلى تيّاره أربعون ألف شخص، واستطاع وحده أن يفعل ما فعله في 1968 الزعماء الثلاثة الأكبر بين الموارنة آنذاك.

وربّما كان ارتفاع شعبيّة عون بين النساء اللواتي خاطبهن بشكل خاص، الدليل الأبرز على ذاك التطلّع الذي عرفته مجتمعات كثيرة أخرى إلى المخلّص الفحل الذي يختصر الذكورة. وبالفعل استطاع قائد الجيش السابق أن يدغدغ صوراً وأن يخاطب مشاعر وافدة من نزاعات الأخوة والأشقّاء. فمن خلال مبايعته كُفّر عن الذنب حيال فؤاد شهاب الذي طعنه الكسروانيّون وتنكّروا له، وكان هو الآخر قائد جيش قبل أن يبني كرئيس جمهوريّة أوّل أتوستراد ويربط بين جونيه وقراها الجرديّة. وفي الوقت ذاته أقنع الكسروانيّون أنفسهم، عبر عون، بأنّ موارنة الجبل ما زالوا أقوياء: فلا الموت أخذ كميل شمعون، ولا حبيب الشرتوني قتل بشير الجميّل.

ولم يكن بلا دلالة أنّ الجنرال كان القطب المارونيّ الأوّل في التاريخ اللبنانيّ الحديث الذي يختار كسروان منصّته الانتــــخابيّة. فشمعون شوفيّ، وريمون إدّه جبيليّ، وبيار الجميّل بيروتيّ، وحميد وسليمان فرنجيّة زغرتاويّان.

«حزب الله»

لكنْ، وكما يعترف النائب العونيّ فريد الخازن، تأدّى عن «التفاهم» مع «حزب الله» تراجع نسبيّ في قوّة عون وتيّاره. ذاك أنّ تعلّق الكسروانيّين بـ «الدولة» الذي رفعوه في وجه القوّات، صُدم بهذا «التفاهم» مع حزب مسلّح. ثمّ إنّهم، على عكس موارنة عين الرمّانة مثلاً، لا يعرفون الضاحية الجنوبيّة ولا يختلطون بأهلها. وفي المقابل فالشيعة، على عكس السنّة الذين يمرّون بجونيه في طريقهم إلى طرابلس، لا يجدون ما يحوجهم إلى ذاك المرور. لهذا، وعلى ما يرى، الدكتور جوزيف خوري، كان لا بدّ من صنع صورة عن «الشيعيّ» يتداولها الكسروانيّون بوصفه المقاتل الشهم والبعيد في آن معاً. وقد انطوت الصورة هذه على تضاعيف عدّة، منها أنّ الشيعيّ ليس السنّيّ الذي والى عبدالناصر ثمّ والى المقاومة الفلسطينيّة علماً بأنّ أحد أبرز قادتها قال إنّ «الطريق إلى فلسطين تمرّ من جونيه». وهذا فضلاً عن أنّ الشيعيّ ليس من اعتاد حشر الرئيس المارونيّ مطالباً بالمشاركة، وليس من درج على قطع طريق الساحل كلّما تدهورت الأوضاع السياسيّة والأمنيّة. ولم يخل الأمر من تبريرات مصنوعة لإقناع صاحبها أوّلاً، مفادها أنّ عون إنّما «يستغلّ الشيعة لتكسير السنّة».

وربّما جاز القول إنّ النظرة الكسروانيّة إلى الشيعة أقلّ حدّة منها إلى السنّة، حيث لا تزال أشباح المماليك تحضر أحياناً. لكنّ هذا لا يلغي انطواء تلك النظرة على مصادر للحدّة والتوتّر. فمنذ أبي نادر وأبي نوفل الخازن، مطالع القرن السابع عشر، وهما المتّهمان بـ «تنصير الأرض»، لا يغيب النقاش في ما إذا كان الخازنيّان قد اشتريا الأراضي من الشيعة أو استوليا عليها بالقوّة التي أفضت إلى تهجيرهم إلى بعلبك. وبالفعل، وكما يلاحظ أنطوان سلامة، لا تزال في كسروان آثار تدلّ إلى الوجود الشيعيّ، كمنطقة بيت المهدي قرب ميروبا وحيّ دار علي في فاريّا، كما لا تزال بلدة حراجل، حيث احتدم الصراع القديم حول المُلكيّة، تعبّر عن هذا التشبّع المسيحيّ والنضاليّ الذي ينمّ عنه التقديس البالغ للعذراء وطقوس الاحتفال المبالِغة بسيّدة حراجل. وهي أحداث كان للتاريخ أن يطويها لولا أنّ الواقع يعيد نكأها مرّةً بعد مرّة في منطقة لا يموت موتاها. فقبل عام ونيّف مثلاً، كان لاحتكاك بين شبّان من قريتي ميروبا وحراجل وآخرين من قرية لاسا الشيعيّة أن تسبّب بسقوط قتيلين. ولم يكن سبب الاحتكاك يتعدّى أفضليّة مرور الشاحنات على طرقات محفّرة.

فالتحالف مع «حزب الله» يبقى، في آخر المطاف، أمراً ملتبساً. فمن جهة، وبسبب الانكفاء المسيحيّ عن السياسات الوطنيّة في متنها العريض، والاستغراق في الهموم المحلّيّة والعائليّة الصغرى، يلوح كأنّ ذاك التحالف هو ما يمنّ عليهم بموقع في تلك السياسات، وما يلبّي بالتالي المزاعم التأسيسيّة الكبرى لدى المسيحيّين. ومن جهة أخرى، هناك خوف من حزب الله فاقمته أحداث أيّار (مايو) 2008 حين وجّه الحزب سلاحه إلى الداخل، فلم يكن ذاك الشهم البعيد الذي صوّره لهم عون.

وهذا، على عمومه، ما عكسته نتائج انتخابات 2009 العامّة، خصوصاً وقد انحازت البطريركيّة المارونيّة، وعلى رأسها البطريرك نصر الله صفير، إلى خصوم الجنرال. فعلى عكس الانتصار المؤزّر في 2005، نال عون قرابة 32 ألف صوت فيما نال منصور البون، رئيس اللائحة المقابلة، أكثر من 29 ألفاً، مقلّصاً الفارق بينه وبين جيلبرت زوين، المرشّحة على لائحة عون، إلى بضع مئات من الأصوات.