جاءت كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز، بمناسبة عيد الفطر، كاشفةً ومشخِّصةً إلى أقصى الحدود. فالأمة العربية تقع بالفعل بين هذين الخطرين الكبيرين: الطغيان الذي ساد في دولٍ عربيةٍ رئيسيةٍ على مدى العقود الماضية، والإرهاب الذي نشر ألويته وأسلحته في موجته الثانية أو الثالثة، مجتاحا الدول والحدود والمجتمعات لدى العرب بالذات.
الطغاة معروفون والذين دعموهم ويدعمونهم معروفون. وقد تلاعبوا من خلال أنظمتهم وأمنياتهم وعساكرهم ليس بمصائر الدول والشعوب وحسْب، بل وبالإرهاب ذاته. نعم، لقد بلغ من ثقتهم بأنفسهم وعسكرهم، أنهم أقدموا على «احتضان» المتطرفين في أرضهم ومعتقلاتهم، لاستخدامهم ضدّ الآخرين، فأسهموا في صناعتهم، وتقويتهم، وها هم اليوم يُظهرون الارتياع منهم، لكنّ طابخ السُمّ آكِلُه!
ولكي لا نبقى في العموميات، نقول إنّ إسرائيل كانت أول رُعاة ذاك الإرهاب في حقبته الحاضرة. فمنذ مقتل إسحاق رابين عام 1995، توالت حكومات التطرف اليميني والديني على السلطة في بلاد العدوّ المعلَن. فانتهى كلُّ كلامٍ عن إمكانيةٍ لحلّ سلمي أو مفاوضات سلام. وصار الهدف والديدن لذاك الجيش الأُسطوري، ومستوطنيه الأشاوس: شنَّ حروب الإبادة على الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية المجاورة، كأنما ليس في العالم غير إسرائيل ومطامحها وأمنها الذي تستطيع بذريعته إلْغاءَ كلّ الآخرين بالقوة العارية! وإذا كانت للتطرف الديني أسبابه المتعددة خارج فلسطين؛ فإنه لا سبب له على أرض فلسطين بالذات غير حروب الإبادة الإسرائيلية المشنونة على الزرع والضرع بداخل تلك البلاد المحتلّة منذ آمادٍ وآماد. وما اكتفت الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بإنتاج التطرف في الجهة المقابلة بالقمع والقتل. بل إنها في المجاولات الأُولى بين قوى منظمة التحرير الفلسطيني وحماس في أواخر الثمانينات، كانت تغضُّ النظر عن صعود حماس لأنّ الأَولوية لدى العدو الإسرائيلي وقتها كانت مصارعة فتح وضربها! وكانت النتيجة هي ما نراه الآن، بل ومنذ أكثر من عقد أنّ قضية الشعب الفلسطيني في الأرض والدولة، صارت نهبا مقسما بين عدة أطراف: إسرائيل وحماس ومؤمني إيران غير التكفيريين! ولو توسّعنا في المشهد بعض الشيء، لوجدنا أنه كان بين أسباب زَوَغان البصر عن التطرف الإسرائيلي، أنّ الدولة الأعظم في الحرب الباردة وزمن الهيمنة، كانت هي ذاتها تمر بمرحلة تطرف ديني أوصل للبيت الأبيض رئيسا بقوة الإنجيليين الجدد. ولنتصور كيف يكون ممكنا وسط هذا التطرف المسيطر بالولايات المتحدة، أن تكون تلك القوة الجبارة وسيطا نزيها في محادثاتٍ أو مفاوضات سلامٍ بين الإسرائيليين والفلسطينيين!
أمّا التطرف الديني الآخَر والذي استولى على السياسات بالمنطقة، بدعوة مواجهة التطرف الإسرائيلي، فقد كان ولا يزال التطرف الإيراني باسم الدين. فقد صار ذاك التطرف نظاما ودولةً بإيران، فجمع «الحُسْنيين»: الطغيان من جهة، والعنف باسم الدين والمذهب من جهةٍ ثانية. ولأنّ ذاك التطرف كان وما يزال في دولةٍ بارزة، فما اتخذ عنوانه الحقيقي منذ البداية، بل كانت هناك عناوين متعددة له، مرة باسم مصارعة الولايات المتحدة، ومرة باسم «مقاومة» إسرائيل، وتحت هذين العنوانين نشروا تنظيماتهم المسلَّحة في الدول العربية خلال أكثر من عقدين، إلى أن صرَّحوا أخيرا بعنوانهم الحقيقي. قالوا للشيعة العرب من أجل حشدهم من وراء دعم الطغيان: إنّ الشيعة في خطر، وإنّ مراقدهم المقدسة في خطر، وعلى شبانهم الذين تدربوا وتنظموا لسنواتٍ وسنواتٍ أن ينطلقوا لساحات «الجهاد» والدفاع عن المذهب. لقد ظلّ الأمين العام لحزب الله يحشد الشيعة ضد «التكفيريين» إلى أن حضر «التكفيريون» بالفعل. ومرةً أُخرى: إذا كان التطرف الديني الإسرائيلي، هو السبب الوحيد للتطرف في الجهة المقابلة؛ فإنّ إيران وحزب الله والتنظيمات المسلَّحة الأُخرى بالعراق واليمن وغير العراق واليمن هم العلّة الأهمّ لظهور «القاعدة» و«داعش» وغير «القاعدة» و«داعش» في الديار العربية في المرحلة الحاضرة!
ولنمض خطوةً أُخرى في تتبُّع علائق الطغيان بالتطرف الديني. فالنظام السوري نظامٌ علماني عظيم، ولا يمكن اتهامه بالتطرف الديني بالطبع. بيد أنّ ذلك لم يمنعْهُ من استخدام التطرف الديني لإرعاب خصومه بالداخل والخارج. لقد استخدم «القاعدة» وتشعباتها وفروعها ضد النظام الذي أنشأه الأميركيون بالعراق، واستخدمَ الظاهرة ضد لبنان بعد خروجه منه عام 2005. بل إنه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أَوهم أنّ الذي اغتاله متطرفٌ ديني! وهذا «الدرس» الناجح من وجهة نظره هو الذي أغرى نظام المالكي الأميركي/ الإيراني بالعراق باستخدام السلاح نفسه ضدَّ خصومه، في الوقت الذي كان فيه الأسد يطلق من سجونه مئاتٍ من المتطرفين ليصارعوا عنه معارضيه الثائرين في سوريا. وراح هو والمالكي (ومن ورائهما الجنرال الإيراني سليماني) يخوّفان العالم من التطرف الآخر، فيعرضان على الأميركيين وعلى الروس وغير الأميركيين والروس خدماتهم في مكافحة الإرهاب السني! وخلال أكثر من عامين، ما كان خريجو السجون المالكية والأسدية يفعلون شيئا غير مقاتلة الناس الثائرين على الطغيان، وبالطبع باسم السلفية الجهادية، وتطبيق الشريعة. ووسط هذه المعمعة المستمرة منذ أكثر من عامين، قتل نظاما الأسد والمالكي والإيرانيون والدواعش أكثر من رُبع مليون في سوريا والعراق، وضُرب العُمران، وصار البلدان معرَّضين للتقسيم بعد الخراب، وما يزال الأمين العام لحزب الله يحشد العسكر بعد العسكر للقتال في سوريا مع الأسد، لا لشيء إلاّ لمكافحة «التكفيريين» الذين يريدون النَيل من الدين والمذهب، كما قال ويقول!
لقد أنتج الطغيان الثورات. لكنه شارك أيضا في إنتاج التطرف والإرهاب. وبوُسع التطرف والإرهاب القتل والتخريب، لكنه لا يستطيع إحداث التغيير الحقيقي. لأنه من الطبيعة ذاتها. ولأنه كذلك فقد أمكن للطغاة وأنظمتهم دائما استخدام ذاك النظير القاتل. بيد أنّ ما نشهده أخيرا أنّ المالكي والأسد بالذات، اصطدما ويصطدمان بذاك الوحش الذي أسهموا في إنتاجه. هل ينقض ذلك القاعدة السالفة الذكر؟ لا، لا ينقض الصدامُ بين «داعش» و«بالش» و«مالش» و«حالش» القاعدة التي ذكرناها. لكنّ الصدام يشير بوضوح إلى «قدرة» النقيض على إنتاج نقيضه واستخدامه إنما بحدود. ويبقى الأمر المؤكَّد أنّ الصدام يحصل دائما بين الوحش والوحش الآخَر إذا تصارعا على أرضٍ واحدة!
إنّ الحقيقة أنّ التطرف الديني السني مُضرٌّ بالدرجة الأولى بأهل السنة ودينهم وفقه عيشهم، ورؤيتهم للعالم، ورؤية العالم لهم. والتطرف الديني الشيعي مضرٌّ بالدرجة الأولى بالشيعة ودينهم وعيشهم في بلدانهم. والذي أعرفه أنّ إسرائيل بالتطرف السائد تملك هدفا مباشرا هو الاستيلاء على فلسطين: إنما ما هو هدفُ إيران من وراء تخريب البلدان والعمران لدى جيرانها العرب ومن سوريا إلى العراق إلى لبنان.. وإلى اليمن!
إنّ الطغيان يُخرج الناس عن طَورهم، فيلجأ بعضهم للتطرف الديني وغير الديني. وهذا هو الدرس الذي تعلمناه من مآسي السنوات الماضية. ويكون علينا للخروج من أهوال التطرف باسم الدين، الخروج من الطغيان والطغاة أيضا ليبقى لنا ديننا، ولتبقى لنا دولنا الموحَّدة والمستقرة. وهذا هو الدرس الآخَرُ الذي تعلمناه من خطاب الملك عبد الله بن عبد العزيز.