IMLebanon

العاصفة العراقية تحجُب لبنان

لم يكن أحد ينتظر من الجلسة الثامنة لانتخاب رئيس الجمهورية أكثر ممّا حصل، لا بل لا أحد يتوقّع كثيراً من الجلسة المقبلة المقرّرة في 23 تمّوز الجاري.

على الرغم من حرب التصريحات والمواقف والمبادرات الدائرة، التي تهدف إلى التأثير في الشارع وحماية القواعد الانتخابية في مرحلة الوقت الضائع والشغور الرئاسي، فإنّ الصورة الحقيقية اختزلتها زيارة النائب وليد جنبلاط إلى باريس حيث التقى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، والتي تتلخّص بالآتي: «التطوّرات التي تشهدها المنطقة كبيرة جداً، ولا بدّ للبنان من أن ينتظر نتائجَها للسير في استحقاقاته الداخلية».

فالأطراف اللبنانية التي تخوض حروب التصريحات والمزايدات هي نفسُها تركّز أنظارَها على المستجدّات الهائلة التي تهزّ ركائز المنطقة انطلاقاً من العراق والزلزال الذي يضرب هذه الدولة. والأهمّ المشاريع والتسويات قيد الإعداد لتكون نتيجة لحمّام الدم المفتوح.

ولا يُنكر أحدٌ حالَ «التطهير المذهبي» التي تسود العراق، مع كلّ ما يعني ذلك لمستقبل الخريطة في هذا البلد والانعكاس المباشر لذلك على دول الجوار بما فيها لبنان.

وفيما أعلنَت «داعش» بعضَ أهدافها، مثل تفكيك الحدود التي رسمَها اتّفاق سايكس – بيكو والانتقال إلى واقع جغرافي جديد بشَّرت به من خلال الإعلان عن الخلافة الإسلامية، قارنَ بعض الأوساط المراقبة ما بين الحروب التي تعصف بالشرق الأوسط منذ انطلاق «الربيع العربي» واندلاع الحرب العالمية الأولى مطلع القرن الماضي. فيومَها جاء ذلك الإعصار بعد عقود عدّة من احتقان الشعوب نتيجة تسويات أوروبية مجحِفة. صحيح أنّها أرسَت فترة من الهدوء المصطنع، إلّا أنّها راكمَت أحقاداً على الشعوب انفجرَت بعنف عام 1914. وفي الشرق الأوسط أنتجَت تقسيمات سايكس – بيكو كيانات مصطنعة قائمة على أساس أنظمة استبدادية مهمّتها قمعُ الموزاييك الذي تتكوّن منه هذه الدول. وقد أدّى تراكم الأحقاد إلى فتح الأبواب أمام المجهول الدامي. أضِف إلى ذلك أنّ للولايات المتحدة الاميركية أعداءً كثُراً لمصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية الحيوية. وصحيحٌ أنّ المحطة الأقوى التي ستبقى تعيش في وجدانها هي 11 أيلول 2001، إلّا أنّ هناك محطات عدّة تدفعها إلى دَوزنةِ مشاريعها المطروحة: خروجها من إيران عام 1979، قطع البترول السعودي عنها عام 1973، الهزيمة العسكرية التي لحقَت بها في لبنان عام 1983… ألخ.

كلّ ذلك مطبوع في العقل الأميركي من خلال تعاطيه مع الصورة الجديدة للشرق الأوسط انطلاقاً من الزلزال العراقي.

أمّا موسكو، فلديها هواجس كبرى نتيجة انبعاث الإرهاب الديني في المنطقة والقريب جداً من الجمهوريات الإسلامية التي تُهدّد الاستقرار الأمني الروسي. والأهمّ سعيُ الصين ربّما إلى تأجيج الأمور في الشرق الأوسط أكثر، ما يُبعد عنها التفرّغ الأميركي لاحتواء صعودها الكبير والطامح إلى إعادة العالم إلى عصر القطبين الجبّارين. لذلك تبدو اللعبة كبيرة ومرعبة وسط الأهداف المتناقضة والمتضاربة والتي ترتوي كلّها من دماء أبناء المنطقة.

من هنا أيضاً الخوف على الأقلّيات الدينية التي تكون عادةً أولى ضحايا المواجهات الكبرى، مثلما هو حاصل اليوم. ففي العراق باتَ الحضور المسيحي شبه معدوم، وفي سوريا دفعَ الوجودُ المسيحي غالياً من حضوره، ليصبحَ لبنان آخر ملاذات المسيحيين الشرقيين، ولكنّه ملاذٌ غير آمنٍ بما فيه الكفاية.

كلّ هذه الهواجس تضجّ في أروقة الفاتيكان. لذلك مثلاً طالبَ الكرسي الرسولي دائماً بوقفِ كلّ أشكال الحروب في الشرق الاوسط. وهو موقف مبدئيّ للكنيسة تعلِنه في كلّ يوم، ولكنّه يحمل طابعَ الإلحاح أكثر عندما يصبح الحضور المسيحي في دائرة الخطر. ذلك أنّ الفاتيكان يدرك جيّداً أنّ إشعال الحروب هو أسرع طريقة إلى زوال الحضور المسيحي في الشرق الأوسط.

قد يكون في لبنان مبادرة تُطَمئِن بسبب عدم رغبة أيّ فريق لبناني في إشعال الحرب وضمّ الساحة اللبنانية إلى ساحات القتال الأخرى لأسباب تتعلق بالحسابات أكثر منها بالأخلاق والمبادئ. لكنّها تبقى إشارة مطمئنة وسط إصرار التيارات الإسلامية على ضرب الاستقرار الداخلي. لكنّ عاصمة الكثلكة القلقة على أوضاع الشرق ومسيحيّيه أرسلت إلى العاصمة الأميركية بما يشبه الإلحاحَ لضرورة إعادة الاستقرار إلى الشرق الأوسط، خصوصاً الحفاظ على استقرار لبنان الأمني والسياسي، ما يضمن الحضور المسيحي فيه. واللافتُ أنّ الفاتيكان أبدى تمسّكه بالعمل على الحفاظ على مبدأ العيش المشترك في لبنان، إضافةً إلى الموقف الذي كان قد أعلنَه بوضوح قداسة البابا فرنسيس أمام الرئيس الاميركي باراك اوباما لدى زيارة الأخير الفاتيكان.

عدا عن ذلك، فإنّ الكرسيّ الرسولي لن يدخل في أيّ مبادرات في لبنان مثلما تردَّد أخيراً، وبالتالي لا صحّة لإرساله موفدين، وأيّ زيارة لأحد مسؤوليه إلى لبنان تبقى في الإطار الكنَسي لا السياسي، كونه يدرك جيّداً أنّ الجميع منشغلون بالزلزال العراقي، وهذا تماماً ما سمعَه جنبلاط في باريس، وهو القلق على مصير الأقلّية الدرزية في لبنان وسوريا.