مع إطلالة كل يوم جديد، يتحفنا “علماء” دولة “داعش” و”مفكّروها” و”مثقفوها” بقرارات وبيانات كابوسية لا تخطر حتى على بال أصحاب المخيلات الأكثر جنوناً وتطرّفاً وخصباً: هذا يفتي بتحجيب أثداء البقر لأنها “مُفتنة” (مفتنة لأي نوع من “الكائنات” تحديداً؟)؛ وذاك يؤكد أن الأرض مسطّحة حكماً (لعله يظن أن غاليليو ماركة جبنة أجنبية)؛ وثالث يعلن أن وأد البنات واجب على كل مؤمن صالح (إشرح لنا كيف سيتكاثر المؤمنون أمثالك أيها الشاطر؟) وهلمّ.
كان يمكن فتاوى وتصريحات كهذه، في عالمٍ “طبيعي”، أن تقع في باب الكوميديا العديمة الذوق، لو لم تكن واقعاً مقرفاً بات علينا أن نتعايش معه، ناهيك بأنها تترافق مع مظاهر عنف وحشية كنا نعتقدها منقرضة (من ذبحٍ وصلب ورجم) لا يحتملها أي إنسان وحيوان و… جماد.
كنتُ في الماضي القريب واحدة ممّن يتساءلون: كيف يمكن هؤلاء وأمثالهم أن يكونوا قيد الوجود في القرن الحادي والعشرين، مع كل ما تحقق ويتحقق يومياً من تقدّم هائل في مجالات العلوم؟ لكني الآن ما عدتُ أعجب ولا أتساءل.
قبل “داعش” جاء جهلة كثيرون. بعد “داعش” سيجيء جهلة كثيرون أيضاً. ولا أعتقد أنه ستكون للجهل خاتمة قريبة طالما يُستغَل الدين لمحاربة العلم وغسل الأدمغة والتخويف من المعرفة. وإذا ظنّ البعض أن الاكتشافات الخارقة التي تحدث كل يوم ستخفف من مظاهر التخلف واحتمالات رفض العلم ووسمه بالهرطقة والكفر، وستعمّق محاربة الجهل والقمع والترهيب، فسيكون هذا البعض واهماً. ذلك أن لكلّ يوم جهلتهُ، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
الأفدح أن المسألة ليست مسألة حجب “بريء” للمعرفة، ناجم عن إيمان صادق بالدين، مهما كان مُداناً أو مؤذياً، بل هو حجب خبيث عن سابق تصور وتصميم، هدفه السيطرة على عامة الناس؛ يرتبط بقرارات “واعية” وشريرة تنفّذ سياسة التعتيم على الفكر والثقافة والعلم لدى الجماهير الشعبية. في ذلك، لا يختلف الداعشيون عن بعض المتطرفين المسيحيين في الولايات المتحدة، الذين يزعمون أن الأرض عمرها فقط 3 آلاف سنة، وأن الإنسان عايش الديناصورات!
الدين، أو بالأحرى أشكاله المتطرفة والظلامية، تخاف المتنورين في العلم والأدب والاجتماع والفكر والتربية، لأنهم يحفرون الأرض ويزعزعون أركان سلطانهم الهمجي من تحت أقدامهم. فإلى متى يستطيع التعتيم الجاهل، أو المقصود، أن يحول دون عبقرية الضوء؟
لا أعتقد أن ذلك يمكن أن يدوم. لا بد أن ينتصر العلم والمنطق على دعاة تحجيب أثداء الدواب.
على عكس المثل، فإن العقل ليس “زينة” فحسب. إنه شرط استمرارنا.