من النادر ألّا يكون التيار الوطني الحر سبّاقاً في ردات الفعل على حدث ما، يعنى به مباشرة، كزيارة البطريرك الراعي الأخيرة لفلسطين المحتلة ولقائه بعملاء لحد. إلا أنه اختار الصمت هذه المرة وفي فمه ماء، علماً بأن ملف «اللاجئين اللبنانيين إلى إسرائيل» إحدى أبرز قضاياه منذ عام 2005
على غير عادتهم، نأى أنصار العماد ميشال عون بأنفسهم عن حدث عام شغل البلاد، خلال الأسابيع الماضية. اختار العونيون الصمت حيال زيارة البطريرك بشارة الراعي لفلسطين المحتلة ولقائه عملاء ميليشيا لحد. على مستوى المسؤولين السياسيين، خرق الصمت النائبان نبيل نقولا وحكمت ديب، والقيادي بيار رفول، منتقدين الزيارة. أما القاعدة العونية، فاعتمدت النأي بالنفس.
في الظاهر، يمكن التيار الوطني الحر التلطي وراء أهمية موقع بكركي للتنصل من أي تعليق قد يشعل سجالاً بين الراعي والرابية في هذه المرحلة. ولكنه لا يستطيع أن يحيّد نفسه أبداً عن ملف رئيسي سبق له أن جعله قضيته منذ عام 2005: ملف الفارين إلى فلسطين المحتلة، بعدما أعاد الراعي إحياء هذا الملف عبر الإشكالية التي أرساها بصلاته على نية اللحديين في حيفا ورفضه وصفهم بالعملاء. وبغض النظر عما إذا كان البطريرك قد تعمّد إحراج العونيين وأساء معالجة الملف عمداً لجرّهم الى مشكلة داخلية مع حزب الله، لا يمكن القفز فوق وجهة النظر العونية في هذا الشأن. يُمكن الرجوع هنا الى أول جلسة لمجلس النواب في تموز 2005 حين استبق عون حديثه عن آلاف اللاجئين الى إسرائيل، بجملة واحدة: «أنا لم آت لأدافع عنهم لأنهم ليسوا عملاء، ولا أقول إنهم أبرياء». كان يكفي أن يقول الراعي جملة مماثلة ليفتح نقاشاً منطقياً حول وضع هؤلاء ويُسكت المشككين في وطنيته وأسباب زيارته، إلا أنه لم يقلها، بل نطق بنقيضها. وكان يمكن أيضاً أن يكتفي بالحديث عن عائلات العملاء، من دون التطرق الى العملاء أنفسهم، ولكنه لم يفعل. وهكذا شرّع بنفسه أبواب الانتقادات أمام شريحة واسعة من اللبنانيين الرافضة لتبرئة العملاء وإهانة عائلات الشهداء الذين قضوا على أيديهم. ذلك يفسر بشكل أو بآخر الصمت العوني تجاه ما يمثله البطريرك أولاً، وتجاه ملف حساس لم يتمكنوا من طيّه منذ تسعة أعوام. فالقانون العوني الذي تضمن حلاً فعلياً لأوضاع «اللاجئين الى إسرائيل» أقرّ من دون أن يبدأ تطبيقه نظراً لربط مراسيمه التطبيقية بوزارات العدل والدفاع والداخلية، ولم تصدر هذه المراسيم أبداً، يقول النائب زياد أسود. وكان عون قد قدم اقتراح قانون ثانياً لتخطي إشكاليات المراسيم، لكنه لم يوضع على جدول أعمال مجلس الوزراء حتى الساعة. ويشير أسود، المكلف مع القيادي العوني زياد عبس بمعالجة هذا الملف، الى أن وثيقة التفاهم بين حزب الله والتيار تطرقت في بندها السادس الى موضوع «اللبنانيون في إسرائيل». واتفق يومها على العمل الحثيث لتحقيق عودتهم، من دون إغفال النقطة الرئيسية والأهم، أي الفصل بين عائلات العملاء والعملاء. وقد تعرقلت الوثيقة آنذاك بسبب حساسية هذا الملف وانتهت الى «أن وضعنا وحزب الله جدولاً بأسماء الممكن إعادتهم، وجدولاً آخر بأسماء أخرى تخطت الخطوط الحمراء ولا سبيل لإعادتها.
نقولا: فليتقبل رجل الدينالذي قرر تعاطي السياسة ردات الفعل على مواقفه
وهؤلاء بأغلبيتهم مقاتلون سابقون ارتكبوا جرائم عمدية في الضيع وأقاموا علاقات مباشرة مع المخابرات الإسرائيلية». وهنا من غير المنصف «المساواة بين المجرم والضحية، إذ إن بعض الفارّين جرى تجنيدهم قسراً. كذلك كانوا تحت تأثير بروباغندا إعلامية قام بها فريق سياسي لتخويف الأهالي من حزب الله وإظهاره كأنه آت ليذبحهم، فإما أن يقاتلوا في صفوف لحد أو يموتون». انتهت المعركة يومها من دون أي ضربة كف من حزب الله. رغم ذلك، دفع الخوف بعض الأهالي الى الفرار. من غير المنطقي أن ترميهم الدولة في فم الذئب وتمتنع عن حمايتهم وتسدّ أمامهم كل المنافذ، ثم تقول هؤلاء عملاء. أولاد منطقتي مثلاً لم ينضووا في صفوف لحد بإرادتهم ولا وقفوا مع إسرائيل ضد دولتهم أو فكروا يوماً في العمالة أو القتال لصالح العدو. سمير جعجع هجّر المنطقة ولم يتمكنوا من النزوح الى بيروت، ففرض عليهم التجنيد فرضاً». وللمصادفة، جال أسود أمس على بعض المنازل التي لها أقارب من اللاجئين الى إسرائيل، وقد سمع كلاماً عن صعوبة عودة هؤلاء، ولا سيما أن أولادهم تعلموا في جامعات إسرائيلية وباتوا يتحدثون العبرية وعن معضلة مصادقة شهاداتهم في لبنان وإيجاد فرص عمل لهم. «كان ينبغي لهذا الموضوع أن يطوى منذ ثمانية أعوام»، يضيف النائب الجزيني: «فكلما تأخر الوقت تضاعفت صعوبة عودتهم».
يدرك العونيون أن صمتهم حيال تصريحات البطريرك وزيارته قد يثير ريبة جمهور المقاومة وربما استياءه، غير أن تجارب الرابية والضاحية أثبتت أن ما بينهما أكثر من وثيقة تفاهم خطية وجمهور متحمس. ليست العمالة وجهة نظر، أقله في القاموس العوني، ولكن تحييد مقام بكركي عن السجالات والحملات ـــ بغض النظر عن شاغله ـــ ليس وجهة نظر أيضاً. وإن كان لا بدّ من النقاش حول زيارة البطريرك، «فليحصل ضمن إطار الضوابط والاحترام، بعيداً عن الحملات الإعلامية والاتهامات العشوائية»، يقول النائب آلان عون. ولكن «تخطى النقد الخطوط الحمر عندما بدأ البعض التشكيك بوطنية الراعي وحرصه على لبنان». لذلك لم يعد الأمر يتعلق بـ«تداعيات الزيارة، بل بات يمس بمقام بكركي مباشرة. ومن يرغب في النقاش الحضاري والمحترم عليه التحدث الى الراعي وجهاً لوجه، تماماً كما فعل حزب الله». فيما يُذكّر النائب نبيل نقولا بمطالبة العونيين الدائمة بفصل السياسة عن الدين، وإلا «فليتقبل رجل الدين الذي قرر تعاطي السياسة ردات الفعل على مواقفه السياسية وليتحملها معه من نصّبوه زعيماً روحياً وسياسياً. أنا كنبيل نقولا، أقول إنه كان من المفترض على الراعي أن يسكت الأصوات الشاذة في حيفا ويتكلم باسم الضحايا، ولكنه لم يفعل. فليتحمل كل شخص مسؤولية أعماله وأقواله».