على متن الطائرة التي أقلته في طريق عودته من زيارته إلى كوريا الجنوبية، أطلق بابا الفاتيكان فرنسيس الأول تصريحا مثيرا جدا، إذ اعتبر أن البشرية دخلت بالفعل معترك الحرب العالمية الثالثة، والتي تخاض اليوم بشكل مجزأ، على حد تعبيره.
التصريح جاء تعليقا من بابا الفاتيكان على الأزمات والصراعات الدولية المستمرة في الآونة الأخيرة، وفي الخلفية الرئيسية منها ولا شك ما يجري في العراق من اعتداءات على الأقليات المسيحية والإيزيدية.
هل جاءت تصريحات البابا تلك لتدفع مكر السؤال الذي تردد مؤخرا حول دور الفاتيكان كقوة روحية في دفع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لاستخدام العنف في العراق ضد «داعش»؟ وإذا كان ذلك كذلك أليس في هذا تناقض جوهري مع المسيحية التي تدعو للسلام بين الأمم والشعوب؟
يبدو أن البابا كان في ذهنه تلك الإشكالية، وبخاصة بعد أن تحدث مراقب الفاتيكان لدى الأمم المتحدة المونسنيور سيلفاتو توماسي داعما القرار الأميركي الخاص بتوجيه ضربات جوية لقوات «داعش»، ومشددا على أنه «يجب التحرك فورا قبل فوات الأوان».
هل كان على البابا أن يتكلم أم يلزم الصمت؟
المقطوع به أن القادة الدينيين في العالم إذ يؤدون شهادة مشتركة للحقيقة الأدبية حول كون القتل المتعمد للأبرياء وإلحاق الأذى بهم في أي مكان في العالم ومن دون استثناء خطيئة عظيمة، فإنهم يساهمون في تكوين رأي عام سليم من الناحية الأدبية، وهو الشرط اللازم لبناء مجتمع دولي قادر على تحقيق طمأنينة النظام ضمن العدل والحرية.
كان على البابا الذي يمثل نحو مليار وأكثر من مائتي مليون كاثوليكي حول العالم أن يتحدث محذرا من الصراع الكوني الثالث الذي تخطو البشرية نحوه بشكل عام، وموقظا الضمائر تجاه الشأن العراقي خاصة.
اعتبر البابا أنه يمكن للأمم المتحدة فقط اتخاذ قرار بشأن كيفية وقف المعتدي، مضيفا أنه «عندما يكون هناك عدوان ظالم يمكن القول إن من الحق وقف المعتدي؟.. هل كانت التجربة التاريخية للفاتيكان حاضرة في ذهن البابا غداة تصريحاته؟».
بيت القصيد هنا هو المقاربة التاريخية بين موقف الفاتيكان اليوم، والاتهامات الموجهة إلى البابا بيوس الثاني عشر (1939 – 1958)، من قبل يهود العالم، بأنه صمت إزاء «الهولوكوست» الذي تعرضوا له في ألمانيا النازية، وهو الأمر الذي ترفضه المؤسسة الكاثوليكية، ولديها أرشيف سري من نحو ستة ملايين ورقة تثبت كم كان البابا وقتئذ شفوقا رحوما رقيقا إلى أبعد حد ومد بيهود أوروبا.
مهما يكن من أمر فإن البابا فرنسيس قد راعى أمرا مهما حين استخدم كلمة «وقف»، وليس «قصف» أو «حرب»، ففي إسقاط سياسي لا تخطئه العين، يخص الولايات المتحدة، أشار إلى أنه «لا يمكن لأمة واحدة أن تتحكم في عملية وقف العدوان، وأن هذه المهمة بعد الحرب العالمية الثانية قد أضحت مهمة الأمم المتحدة». –
إلى أبعد من ذلك حملت كلمات بابا روما تحذيرات تتصل بفكر الهيمنة الأميركية الساعية لإشعال الحرب العالمية الثالثة إنْ بطريق مباشر أو غير مباشر، فالكاردينال بيرغوليو الفقير الآتي من الأرجنتين، الذي يزعج اليوم عتاة الرأسمالية في أميركا، يحذرنا علنا.. «علينا أن نتذكر كم مرة استخدم عذر وقف العدوان من قبل قوى كبرى أرادت استعباد أمم وقيادة حروب وغزوات».
فلسفة حاضرة الفاتيكان اليوم أجملها البابا في قوله «وقف المعتدي الظالم هو حق إنساني، وعندما يكون هناك معتد ظالم فإنه يتوجب إيقافه».
بحال من الأحوال لا يمكن فصل موقف البابا من العراق و«داعش» عن بقية مواقفه الثورية منذ اعتلائه الكرسي البابوي، وفي جميعها كان الإنسان والإنسانية هما جوهر أحاديثه في مواجهة العلمانية الجافة، والإرهاب الأسود، على حد سواء، ويبدو أن مواقف بابا روما قد أحدثت حراكا دينيا له طابع ومسحة سياسية في أوروبا يمكن رصد بعض منه في الحال دون إغفال تبعاته في الاستقبال.
على سبيل المثال لا الحصر، ردد مجلس أساقفة أوروبا صدى وفحوى كلمات البابا في رسالته للأمين العام للأمم المتحدة. وشددت الهيئة التي تنطق باسم كل المجالس الأسقفية الأوروبية على أنه يجب استعمال كل الوسائل الممكنة المشروعة لوقف هذا الإرهاب وحتمية تطبيق تدخل ملموس ينجي حياة مئات الآلاف من الأشخاص المعرضين للموت جوعا وعطشا.
أغلب الظن أن بابا روما، في تصريحاته هذه، قد وضع نصب عينيه القول الشهير للفيلسوف والقديس أغسطينوس «إذا أردت السلام، فأعد للحرب» (Si vis pacem para bellum).
يذكرنا موقف البابا بما قاله الشاعر الإنجليزي جون دون عند حديثه عن الحرب حينما قال «كل إنسان لا يمثل جزيرة.. كل إنسان جزء من المعمورة، جزء من كل. إن وفاة أي إنسان تنقص مني، لأنني جزء من البشرية، لذلك لا تسأل أبدا عن الذي يقرع نعيه.. إن النعي يقرع من أجلك».
هل يستجيب العالم لقرع أجراس الفاتيكان؟