يُثير تعايش اللبنانيّين مع الشغور الرئاسي مخاوف جمّة عند بكركي والفاتيكان، لأنّهما يعلمان أنّ انكفاء المسيحيّين عن الدولة يبدأ عرضيّاً وموقّتاً، ويتطوّر الى عُرفٍ يصعب عليهم بعده استرداد ما خسروه. وعلى رغم خطورة الوضع المسيحي، إلّا أنّ الفاتيكان لن يتحرّك في اتجاه الداخل الماروني واللبناني، لأنّه يعلم علم اليقين أنّ المشكلة هي أكبر بكثير من السياسة اللبنانية، وإن كان بعض الزعماء المسيحيين يُستخدم واجهة لتعطيل انتخاب الرئيس.
اتَّبع الموارنة أخيراً سياسة «تكبير الحجر» التي لم تُصب معهم، فبعدما كبّروا الحجر في قانون الانتخاب، ورفعوا سقف مطالبهم وأيّدوا المشروع «الأرثوذكسي»، خسروا معركة القانون الذي يؤمّن صحّة تمثيل المسيحيين. وتنطبق هذه الحال على رئاسة الجمهورية بعدما أصرّوا على انتخاب الرئيس الماروني القوي، فشغر القصر الجمهوري في بعبدا.
يقف الفاتيكان حائراً أمام وضع موارنة لبنان، وكل ما يُحكى عن موفدين فاتيكانيّين ومبادرات جديدة حالياً هو كلام غير دقيق، وقد تبيَّن أنّ مَن زار لبنان الأسبوع الماضي هو الكاردينال البرازيلي رئيس أساقفة ساو باولو السابق وقد أتى برفقة صديقه مطران البرازيل للموارنة إدغار ماضي، وهما يقومان بجولة لا دخل لها في السياسة أو في أي مبادرة رئاسيّة.
الى ذلك، يكشف مصدر قريب من الفاتيكان لـ»الجمهورية» أنّ «السفير البابوي غابريال كاتشيا أبلغ إلى البطريرك الراعي والمسؤولين المسيحيّين واللبنانيّين أنّ نظرية الرئيس الماروني القوي قد انتهت وسقطت، لأنّها لم توصِل إلّا الى تعطيل الإستحقاق الرئاسي»، وقد أبلغ إليهما كذلك موقف الفاتيكان الذي يُحمّل رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون مسؤوليّة تعطيل الاستحقاق، لأنه يتمسّك بترشيحه ولا يترك مجالاً للبحث في مرشّح بديل».
ويقول المصدر إنّ «الفاتيكان، ونتيجة مقاربته ودرسه آخر المستجدّات، يرى أنّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع قدَّم كل ما يلزم لتسهيل الانتخاب، وقام بمبادرة جديّة، ووضع ترشيحه في تصرّف البطريرك الماروني، وحاول التفتيش عن حلول لإنقاذ موقع الرئاسة من الفراغ. لكنّ هذا لا يعني، في المقابل، أنّ الفاتيكان يقف إلى جانب جعجع أكثر من عون، بل إنّه مع أي زعيم أو طرح يؤدي الى انتخاب رئيس، وهذا أمر لم يفعله عون. ومن هذا المنطلق، لن يوجّه الفاتيكان دعوة الى عون لزيارته، لأنه ما زال متمسّكاً بترشيحه، على رغم أنّ السعودية والرئيس سعد الحريري قالا له إن لا أمل بوصوله الى سدّة الرئاسة».
وأمام هذا الواقع، تُظهر المعطيات التي تجمّعت في دوائر الفاتيكان أنّه «طالما أنّ عون لم يسهّل أيّ اتفاق ماروني على الرئاسة، فذلك يعني أن لا رئيس إلّا إذا حصلت خضّة كبيرة، أو اتفاق كبير شبيه باتفاق الدوحة وسط انطفاء المحركات الدولية».
يشعر الراعي بالتعب من عدم قدرة مجلس النوّاب على انتخاب رئيس، وقدّ أبلغ إلى عدد من زوّاره أن لا أمل في إقناع النواب المسيحيين المقاطعين بالعودة عن قرارهم، وهو كان يظنّ أنّ بعض الزعماء المسيحيين تعلّم من دروس الماضي ولن يُكرِّر تجارب الحرب المريرة، لكنّه فوجئ بتشبّثهم بمواقفهم «البدائية»، في وقت يقول إنّه جاء للعمل منذ انتخابه بطريركاً بعقلية تحديثية انفتاحيّة، وليس بعقليّة «جهاديّة». مع ذلك، يؤكد قريبون من الراعي أنّ معركته مستمرّة ولن ييأس أو يشلح ثوب البطريركية، وظهوره بلباث «الجينز» في أراضي الديمان هو رسالة الى الموارنة أوّلاً، على أنّه مستعدّ، مثل بطاركة الموارنة، للنضال والعمل في الأرض وتكسير الصخور إذا استدَعت الحاجة، مثلما فعل الموارنة تاريخياً، وتليين الرؤوس التي لا تلين لمصلحة الموارنة ولبنان.