لم يعد ممكناً مواجهة الأوضاع الاستثنائية بقرارات عادية. دخل لبنان منذ اندلاع الحرب السورية دائرة الخطر، ودفعت تطورات الأسابيع الأخيرة في سوريا والعراق نيران الحريق الاقليمي الى داخل لبنان في شكل غير مسبوق.
عاد الرئيس سعد الحريري الى بيروت الأسبوع الماضي تحت وطأة التطورات الحاصلة، ساعياً الى تأمين شيء من التماسك الداخلي في مواجهة العاصفة الزاحفة. إلّا أنّ هذه العودة قد تكون غير كافية اذا لم تواكبها إعادة نظر لبنانية شاملة من مختلف الأطراف اللبنانيين في أسباب ما بَلغه لبنان، وقرارات تعيد الاعتبار الى الطبقة السياسية التي صارت في مكان، والرأي العام اللبناني في مكان آخر.
تُبنى الأوطان بالآمال والأحلام، وهي اليوم مفقودة في لبنان. في عزّ سنوات الحرب المشؤومة 1975 – 1990 كان اللبناني على الدوام، وعلى رغم كل السواد المحيط به، مؤمناً بأنّ الفجر آتٍ، وأنّ لبنان الوطن والدولة واقف في نهاية النفق.
لم يكن اتفاق الطائف في العام 1990 سوى إعلان لنهاية الحرب الساخنة، وعلى مدى السنوات الـ24 الأخيرة اختبر اللبنانيون الحرب الباردة حيث النزاع «مُنظّم» والخلاف خاضع لقواعد محدّدة تمنع الانفجار الكبير من جديد. حلّ الهدوء ولم يأتِ السلام.
وبقيَ السؤال الذي برز مع إعلان الاستقلال في العام 1943 من دون جواب: أيّ لبنان نريد؟ ومن دون الغَوص في تأثيرات الوضعين الاقليمي والدولي بين عامَي 1990 و2014 يمكن القول إن لا شيء أساسياً في المشهد قد تغيّر.
لا مغالاة في القول إنّ دور الساحة يكاد يكون الدور الوحيد لوطننا، في منطقة تغرق بالنار والدم وبمشاريع ومخططات من النوع الذي يُحدث تغييرات جذريّة وتحوّلات مصيرية في بنيان الدول والمجتمعات ومصائر الشعوب.
من الملاحظات اللافتة أنّ لبنان عاش احتلالات مباشرة لأرضه من قوى خارجية على مدى 94 عاماً منذ إعلان دولة لبنان الكبير تجاوَزت الـ60 عاماً. وهذا الأمر وحده يدلّ على حجم الارتباط الهائل بين المحلّي والخارجي في القضية اللبنانية.
ولذلك، فإنّ أيّ تسوية لبنانية كانت على الدوام مقرونة برعاية خارجية أو مبارَكة منها. لم ينجح اللبنانيون بكلّ أسف في بناء الدولة الموعودة، وظلّ اللبنانيون رعايا يأملون أن يصبحوا مواطنين. لا يمكن تحميل المسؤولية دوماً للخارج، فحروب الآخرين خاضَها اللبنانيون بأيديهم، ولا يزالون.
كان اللبنانيون يتقاتلون في منطقة مستقرة ممسوكة بأنظمة ديكتاتورية قاهرة، الى أن انفجرَت المكوّنات الطائفية والمذهبية في الجوار واختلطت الأحلام بالأوهام والمطالب المحقّة بالمصالح الدولية في لعبة الأمم. كان يمكن للبنان أن «يطمَئنّ» الى أنّ استقرار الجوار سيؤمّن صراعاً منضبطاً على أراضيه، والى أنّ إمكانات الحياة ستبقى متوافرة فيه.
صار الخوف على سوريا مثلاً، بعدما كان منها، وصار ما يحدث في سوريا والعراق تحديداً يُحرّك مشاعر الخوف والقلق من الآتي الأعظم الى لبنان. والمؤسف أنه في مواجهة العواصف العاتية الآتية عبر الحدود يفتح المسؤولون الابواب والنوافذ، ويطرحون الفراغ دواءً. من فراغ الى فراغ، وهم ينبّهون الى خطورة الفراغ.
لا يمكن اللجوء الى شمّاعة الخارج وغسل أيدي المسؤولين اللبنانيين من الأزمة الكيانية التي يعيشها لبنان. صار من الضروري المبادرة فوراً، وبعد عودة الرئيس الحريري، الى ملء الشغور في الرئاسة الأولى قبل فوات الأوان.
وما جرى بعد الشغور الرئاسي عامَي 1988 و2007 ما يزال ماثلاً في الأذهان بنتائجه المستمرة حتى اليوم. ويفترض أن يواكب ذلك توحيد الموقف من الخطوات المطلوبة لمنع انتقال الحريق السوري مجدّداً الى لبنان. صارت الرهانات اللبنانية على الوضع السوري قاتلة، وأثبتت التطورات أنّ قتال «حزب الله» خارج الحدود لم يحمِ لبنان من آثار الحريق السوري وامتداده الى لبنان.
ويسأل الكثيرون ايضاً عن مقدار الوعي اللبناني والمسؤولية في التعاطي مع الملف السوري، ويعطون مثالاً كيفية معالجة تركيا والأردن موضوع النازحين وحصر وجودهم على الحدود، في حين تحوّلت مخيّمات النازحين الى لبنان قنابل موقوتة، أظهرت الحرب الأخيرة في عرسال القليل ممّا يمكن أن تُحدِثه من عواصف.
وما هو مطلوب من «حزب الله» في مراجعة قرار قتاله خارج الحدود، مطلوب في المقابل من الرئيس الحريري وتيار «المستقبل» لجهة استخراج الدروس اللازمة من مسيرة السنوات الأخيرة وما بَلغته الاوضاع على الساحة السنيّة تحديداً.
كيف وصلَ النفس المتطرّف الى الأرض اللبنانية؟ هل من أخطاء ارتُكبَت؟ وكيف السبيل لإعادة الاعتبار الى لغة العقل؟ وربما تكون المراجعة مطلوبة هنا أيضاً من فريق «8 آذار» و«حزب الله» خصوصاً.
تفترض مواجهة العواصف الداخلية والتغييرات الهائلة الحاصلة في الجوار تحصين المؤسسات وإعادة الاعتبار لدورها. والمبادرة في أيدي القيادات المسيحية تحديداً، لكي تُثبت مدى تقديرها للمصلحة الوطنية العليا ومصلحة المسيحيين، فتقدّم المطلوب لإنجاز الانتخابات الرئاسية.
من المعيب أن يقدّر العالم المَخاطِر التي تتهدّد لبنان أكثر من اللبنانيين أنفسهم، وقد أثبتت السنوات الأخيرة بعد الانسحاب السوري سوءاً في إدارة المصالح اللبنانية من جانب المسؤولين والقيادات في فريقَي «14 و8 آذار» على حدّ سواء.
تكفي نظرة بسيطة الى الملفات المعيشية الغارقة في حسابات التوظيف السياسي، والعجز الرسمي عن إيجاد حلول ناجعة لمشاكل البطالة، والهجرة، والصحّة، والتربية، والبيئة، والكهرباء، والمياه… للدلالة على حجم الافلاس السياسي عند أهل السياسة، ولمعرفة الهاوية التي يعيش فيها اللبنانيون اليوم.
من المؤسف القول إنّ التجربة اللبنانية على صعيد ممارسة الحكم وإدارة شؤون الناس فاشلة جداً، وعلّة النظام السياسي القائم أنه لا يتيح محاسبة المسؤولين. وقد يكون من الضروري التفكير مستقبلاً بصيغة جديدة يتفّق عليها اللبنانيون من دون ضغوط الخارج والداخل، تكفل المساواة بينهم، وتوفّر إمكانية المحاسبة، وانتظام الحكم وإنجاز الاستحقاقات في مواعيدها.
لكن قبل ذلك لا بدّ من إقفال الأبواب امام العواصف الزاحفة، والخطوة الأولى تكون في انتخاب رئيس للجمهورية يقود معركة إنقاذ الجمهورية، ويحصّنها في مواجهة حروب الآخرين في الجوار القريب والبعيد.