الحدث العراقي يزعزع الخرائط.. وواشنطن توظف «داعش» ضد إيران
«الفراغ» يمدد «الفراغ».. والتحييد لا يحجب المخاوف
كتب المحرر السياسي:
لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الخامس والأربعين على التوالي.
الأصح هو القول إن مرور تسعين يوما بلا انتخابات رئاسية لن يكون أمرا مفاجئا لأحد من اللبنانيين، بعدما فوتوا قبل الرابع والعشرين من أيار المنصرم «فرصتهم اللبنانية».
ومع «داعش» في العراق، انقلبت معطيات طاولة المفاوضات والمقايضات في المنطقة، وصارت المواعيد مفتوحة بلا أفق زمني، والساحات متشابكة أكثر من أي وقت مضى، إلى حد القول إن المنطقة كلها صارت ملفا واحدا تصعب تجزئته في المدى المنظور.
واللافت للانتباه انه في كل مرة تكون المنطقة مشدودة إلى حدث ما.. يأتي حدث آخر، فيصار إلى إعادة ترتيب الأولويات.
قبل «داعش»، أثبت المعسكر الروسي ـ الإيراني ـ السوري («حزب الله» ضمنه) تماسكا في السياسة والميدان، جعل كل الأطراف الإقليمية والغربية المراهنة على سقوط النظام السوري منذ ثلاث سنوات ونيف، تفكر في كيفية النزول عن شجرة النيران السورية التي باتت تهدد المنطقة بأسرها. هذا التماسك تصلب أكثر في ضوء التعامل الروسي مع الأزمة الأوكرانية. في الوقت نفسه، بدا أن الاتفاق النووي الإيراني ـ الأميركي أصبح بحكم المنجز.
وقع الانقلاب في العراق. تغيرت المعادلة سريعا. انتعش المعسكر الخليجي ـ التركي ـ الغربي. أصيب الإيرانيون بإحراج وإرباك كبيرين.. صحيح أن الجيش السوري و«حزب الله» واصلا تنفيذ خطتهما المحكمة للامساك بكل منطقة الحدود اللبنانية السورية وسياسة القضم في مناطق حلب ودرعا ودمشق، لكن المدى الحدودي المفتوح جغرافيا بين العراق وسوريا، أفسح أمام عنصرين متناقضين: أولهما وجود جيش يقدر بعشرات الآلاف من المقاتلين الأصوليين الذين يتحركون بأمر من «داعش» بين البلدين، وثانيهما، قطع خط الإمداد البري بين طهران ودمشق عن طريق العراق نهائيا.
«المتورطون» في الحكاية العراقية ما زالوا في خانة «المشتبه بهم، حتى الآن، تتقدمهم تركيا ثم قطر.. وبمعزل عن استعادة نظرية جو بايدن التي أطلقها منذ ست سنوات والتي نادى فيها بثلاث فدراليات سنية وشيعية وكردية في العراق، فإن الأميركيين بدوا كمن يحاول الاستفادة من واقع الأزمة الناشئة لتعديل معطيات عراقية وإقليمية، خصوصا أن الأسئلة التي ضجت بها مراكز صنع القرار في واشنطن، شكلت تعبيرا عن صدمة ما.. ولكن لم تصدر أية إشارة توحي بتشجيع خيارات التقسيم، خصوصا أن الكتلتين الشيعية والسنية لم تصدر عنهما أية إشارة في هذا الاتجاه.. فيما «الموال الكردي» بالانفصال، صار موالا تاريخيا ودونه عقبة الجيران في كل من تركيا وسوريا وإيران.
جهود نصرالله في الشأن العراقي
ليس خافيا على أحد أن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله تدخل قبل الانتخابات العراقية وبعدها مرارا وتكرارا محاولا رأب الصدع داخل «البيت الشيعي» العراقي وحث رئيس الوزراء نوري المالكي على عدم تجاوز الشريك السني، وصولا إلى إعادة تحصين الوحدة الوطنية العراقية. حضرت عشرات الشخصيات العراقية إلى بيروت، لا بل تردد الجنرال قاسم سليماني شخصيا أكثر من مرة، على كل من بغداد وبيروت، وحاول بالتنسيق مع السيد نصرالله، إقناع العراقيين باعتماد خيارات جديدة، لكن العقلية «الصدامية» التي يتميز بها المالكي وانغماس معظم الطيف السياسي العراقي في الفساد، فوت كل هذه الفرص.
استعاد قسم التخطيط الاستراتيجي في وزارة الخارجية الإيرانية مشهد المجزرة التي ارتكبها «الطالبان» بحق 11 ديبلوماسيا وصحافيا إيرانيا في مزار شريف في أفغانستان في العام 1998. يومها قرعت طبول الحرب في تلك المنطقة، وأمر الرئيس الإيراني محمد خاتمي بنشر حوالي نصف مليون جندي إيراني على طول خط الحدود الإيراني الأفغاني البالغ نحو ألف كيلومتر. فجأة جاء من يقرر تعديل قواعد اللعبة. لا يجوز أن يكون الخصم مدركا لردة فعلنا التالية. علينا كسب الوقت. استعادة زمام المبادرة، إلى أن حصل غزو أفغانستان.
يتعامل الإيرانيون بنفس طويل مع الملف العراقي. قناعتهم أن الحرب النفسية كانت سببا في سقوط حقبات عراقية تاريخية… ومعاصرة.
في المقابل، كان الأميركيون يناقشون حدود الاستفادة مما جرى. زيارة جون كيري والتسريب المتعمد لمحضر اجتماعه بنوري المالكي خير دليل على وجود هوة قابلة للاتساع. فجأة قرر الأميركيون أن يشمّروا عن عضلات «الواقعية» مقابل عضلات «الشجاعة» التي تباهى بها المالكي أمامهم. شهدت الأروقة الأميركية مناقشات لا تزال مستمرة حول الفائدة من تقسيم العراق. الصراع السني ـ الشيعي واحتمالات تمدده وتأثيره على الأمن والنفط في الإقليم. الشيعة والأكراد يتحكمون بمعظم مصادر البترول (الاقتصاد)، وفي المقابل، يتحكم السنة بمعظم مصادر المياه. نظرية بايدن قابلة للتطبيق في الشق المتصل بالدستور العراقي الذي يشجع الحالات الفدرالية من دون الخروج من صيغة الحكومة المركزية.
شروط أميركية
الأميركيون أيضا، قرروا تعديل جدول أعمال مفاوضاتهم ومجموعة «5+1» مع طهران. أضافوا شروطا جديدة تصعب فرص التفاهم. ضجت أروقة الجولة السادسة في فيينا بتسريبات واضحة: إصرار على الربط بين أسلحة إيران البالستية والتفاهم النووي، تخفيض أجهزة الطرد من 19 ألفا إلى 3 آلاف خلافا لطموح إيران بامتلاك خمسين ألفا في حدود العام 2020، قضية المنشآت الحساسة في آراك وفوردو ونتانز، فضلا عن تعقيد المناقشات المتعلقة بما بعد توقيع الاتفاق النهائي.
أدرك الإيرانيون أن الغربيين، وبدفع من دول الخليج وخصوصا السعودية، يضعون العصي في دواليب المفاوضات النووية. طرح المفاوضون الغربيون صيغا حول توقيت رفع الحظر (ليس فوريا بل متدرجا)، بما أعطى إشارة واضحة للإيرانيين أنهم يواجهون أزمة، وأن فرص التوصل إلى اتفاق في غضون العشرة أيام المتبقية صارت صعبة للغاية، خصوصا أن تعليمات القيادة الإيرانية للمفاوضين حاسمة بعدم التراجع أو التنازل عن حقوق إيران النووية السلمية. وفي المقابل، رسم الآخرون مجموعة من الخطوط الحمر غير قابلة للتفاوض!
بالتزامن مع مفاوضات فيينا، تعقدت فرص تطبيع العلاقات الإيرانية السعودية، خصوصا أن اعتذار وزير الخارجية محمد جواد ظريف عن تلبية الدعوة إلى اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي في جدة في 18 و19 حزيران المنصرم، أعطى إشارة واضحة للرياض بأن ظروف تطبيع العلاقات لم تنضج حتى الآن. زيارة الديبلوماسي الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى الكويت وسلطنة عُمان والإمارات ستشكل فرصة لبعث رسائل جديدة إلى الرياض، مكملة لتلك التي حملها أمير الكويت، وهي لا تحمل بالضرورة «أخبارا سارة» للسعوديين!
اختفى كل كلام عن تسويات في سوريا. بالعكس، أعطت زيارة أحمد الجربا لمسعود بارزاني، غداة مطالبة الأخير بالانفصال عن العراق، بدعم إسرائيلي، إشارة سلبية، خصوصا ان زيارة كهذه لم تكن لتحصل من دون إذن وزارة الخارجية السعودية وربما دوائر القصر الملكي السعودي!
ازداد الموقف تأزما في البحرين واليمن. اشتعل المشهد الفلسطيني وهو ينذر بانتفاضة ثالثة.
« مشروع داعشي» في لبنان؟
ماذا عن لبنان؟
حتى الآن، يستمر قرار «التحييد» ساري المفعول، أقله من جانب الرياض وطهران ومجمل سلوك حليفَي هذين الطرفين محليا، يشي بذلك، لكن ثمة مؤشرات مقلقة حول عودة تركية ـ قطرية إلى الساحة اللبنانية من خلال «مجموعات أمنية» تتماهى مع «المشروع الداعشي» في العراق وسوريا. بلغ الأمر حد تعبير مراجع لبنانية عن قلقها من وجود مخطط ما لإيجاد منفذ بحري لـ«دولة الخلافة» عبر الساحل الشمالي اللبناني، في ظل تعذر التمدد نحو الساحل السوري!
يقود ذلك للاستنتاج أن وضع الشمال سيبقى عنوان قلق كبيرا في المرحلة المقبلة، غير أن الأخطر، هو هذا التزامن بين انتعاش مجموعات «قاعدية» في لبنان، وبين ظاهرة انتقال أعداد من تنظيم «القاعدة» إلى لبنان عن طريق تركيا جوا، وهي استوجبت إجراءات بالتنسيق مع الأميركيين ومسؤولي أجهزة استخبارية غربية بارزة أجمعوا على توجيه اللوم الى السلطات التركية، وطلبوا من الحكومة اللبنانية التشدد في هذا المجال.
والى الاستنفار الأمني القائم إزاء خطر الانتحاريين والسيارات المفخخة، فان احتمالات التوصل إلى تسوية دولية إقليمية في ما يخص الموضوع الرئاسي اللبناني، صارت صعبة للغاية في المدى المنظور، وثمة كلام فرنسي ـ أميركي عن ارتفاع حظوظ شخصية لبنانية ذات خلفية أمنية، لكن بعد أن ترتسم معالم تسويات مؤجلة في كل من العراق وسوريا إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد سنتين ونيف، ما يعني أن استمرار الشغور الرئاسي سيقود تلقائيا إلى مد هذه الحكومة بمقويات سياسية، بينها الذهاب نحو خيار التمديد للمجلس النيابي لمدة سنة أو سنتين، إلا إذا كان هناك من يريد أن ينسحب الفراغ الرئاسي على مجلس النواب والحكومة وصولا إلى عقد «مؤتمر تأسيسي»، وهي النظرية التي روّج ويروّج لها البعض مسيحيا، ولا يبدو حتى الآن أن «حزب الله» و«أمل» في وارد تبني أي من حروفها… نهائيا.