لم يعد صدر سمير جعجع يحتمل أن يُفتح كل فترة ملف مرتبط بالحرب الأهلية لمحاربته به. كما أنه لا يريد أن تنافسه على رئاسة الجمهورية أسماء شهداء اتُّهِم باغتيالهم. تريد القوات اللبنانية «مصالحة الجميع ومصارحة مع التاريخ» عبر إنشاء «لجنة الحقيقة والمصالحة»، تقول لهم فيها: كلنا قتلة
لم يكف القوات اللبنانية تنظيم الحزب عبر تأهيل كوادره ووضع نظام داخلي له، ومحاولة فرض الديموقراطية داخله. فصورة المقاتل بالبزة الزيتية على الحاجز لا تزال هي الراسخة في ذاكرة كثيرين ممن لم ينسوا تلك المرحلة بعد. الاعتذار الذي قدمه رئيس الحزب سمير جعجع في قداس شهداء الحزب في جونية عام 2008 لم يكن كافياً للبعض، لأنه لم يحدد للمجتمع اللبناني الجرائم التي ارتكبها فأتى اعتذاره عاماً لا يشفي غليل «الموجوعين». حتى داخل القوات، هناك جيل لا يزال يعيش على أمجاد مضت. حاول جعجع الخروج من «تقوقعه المسيحي». تحالف مع تيار المستقبل، تبنى «الثورة السورية»، وترشح الى أرفع منصب في الجمهورية اللبنانية. إلا أنه لم يرتق بعد الى مستوى «الزعيم الوطني». يحول دون هذا الأمر فريق خصم يستعين بتاريخ جعجع الميليشيوي حتى يبني عليه معركته ضده، إضافة الى عدم وجود حليف يستطيع أن يقدم له الدعم اللازم لينتقل الى مرتبة أرفع.
منذ خروجه من السجن، وملفات الحرب، التي تفتح عند كل مناسبة، تقضّ مضجعه. في جلسات انتخاب رئيس جديد، استُحضِرَت أسماء الشهداء الذين اتهم جعجع أو حكم بجرائم قتلهم. انطلاقاً من هنا، «لمعت» فكرة إنشاء «لجنة الحقيقة والمصالحة» في رأس أحد المسؤولين في معراب. حول الطاولة المربعة في مقر القوات الكسرواني، دار نقاش جدي حول كيفية مواجهة «خطة أبلسة جعجع»، استناداً الى أحد المسؤولين. هذا المخطط قديم، يعود الى أيام «إسقاط الاتفاق الثلاثي من قبل جعجع واعتبار الرئيس حافظ الأسد أمام الأميركيين أن الحكيم هو عدوه الأول ولن يغفر له أبداً».
اللجنة مستوحاة من تجربة من تدّعي القوات أنه ملهمها هذه الأيام، أي رئيس جنوب أفريقيا الراحل نيلسون مانديلا. «لجنة الحقيقة والمصالحة» هدفت الى دعوة مرتكبي الجرائم للاعتراف بـ«أخطائهم» أمام أعضائها، ودفعهم الى طلب الصفح من الناس. النسخة القواتية من اللجنة سيعمل عليها النائب إيلي كيروز، «بالتعاون مع ثلاث جمعيات من المجتمع المدني، كما أننا سنطلب من الرئيس نبيه بري أن يدعو الى تأسيسها بعد انتهاء التحضير لها». اللجنة دخلت حالة «الفراغ» قبل إنشائها، فمؤتمر الإعلان عنها مرتبط بالانتخابات الرئاسية، «سنحدده بعد انتخاب رئيس جديد»، لتبدأ بعدها «ورشة عمل تعلن على أثرها التوصيات، والتي سنسأل بري إمكانية أن يلقيها»، كيف لا وهو أبرز المشاركين في الحرب الأهلية. القوات تريد دعوة جميع المعنيين بالحرب، «مع علمنا بأن بعضهم سيرفض المشاركة». والمكان سيكون «على الأرجح مكتبة مجلس النواب». لا تزال الفكرة غير ناضجة تماماً في معراب، «إلا أننا جديون جداً في هذا المشروع وسنسير به حتى النهاية». وهي قد بدأت لقاءاتها مع الجمعيات غير الحكومية، إضافة الى طلبها تسلم نسخة عن الدراسة التي قام بها الوزير زياد بارود عن المنفيين قسراً، «ونحن سنفتح جميع الملفات التي ارتكبناها والتي ارتكبها الآخرون». فالقوات «سامحت واعتذرت، في حين أن الباقين لا يزالون غير قادرين على طي صفحة الماضي والاعتذار، وكأن القوات كانت تحارب الملائكة في تلك الفترة». لذلك، تريد تشكيل هذه اللجنة بهدف «تنقية الذاكرة، ووضع حد لاستغلال الماضي والاستفادة من تجربة الحرب، وصولاً حتى العام 2005 حتى نصل الى المصارحة والمصالحة».
تحاول القوات دائماً التسويق لفكرة أن محاكمة قائدها في تسعينيات القرن الماضي كانت صورية، في ظل الوصاية السورية ووجود نظام قضائي مسيس. بيد أنها لم تقبل يوماً الدعوات الى إعادة فتح المحاكمات بعدما تسلم الفريق المقرب منها الحكم، والذي للمفارقة اتهم جعجع في ما مضى بالإجرام. يصرّ المسؤول على هذا الرفض: «نقبل إعادة المحاكمة إذا كانت ستشمل الجميع. تمت محاكمتنا في زمن باطل، وبالتالي ما بني عليه فهو باطل». العبارة الأخيرة هي مفتاح مشروع القوات التي تبدو كمن يصرخ في وجه أقرانه: لسنا وحدنا القتلة. كلكم مثلنا.