IMLebanon

الكذب كسلاحٍ مشروع

الثورة المعلوماتية حملت في أحشائها نقيضها. مثل كل الثورات، جاء الفضاء الافتراضي بحرية غير مسبوقة في تداول المعلومات والأخبار وبنوع جديد من العولمة يضفي أبعاداً إنسانية وثقافية على العولمة الاقتصادية، وترافق أيضاً مع استغلال هذه الميزات في الصراعات والحروب ونشر «الحقائق المضادة» و «اللاحقائق» ناهيك عن أنصافها وأرباعها.

وليس التضليل وبلبلة الخصم ونشر الشائعات في صفوفه بجديدة، فهذه ممارسات معروفة منذ بدأ البشر يقتتلون ويختلفون، وكانت تتخذ في كل عصر الشكل الذي يغلب على نقل الأخبار والمعلومات. شبكة الإنترنت التي تحقق انتصارات هائلة في نشر المعرفة والتواصل وتسهيل نقل العلوم والفنون وانفتاح الثقافات والحضارات بعضهاعلى بعض، تساهم من جهة ثانية في تعميم الأكاذيب والمغالطات المقصودة واغراق القارئ والمشاهد بكمٍّ لا يستهان به من اللغو والترهات، العفوي والبريء والمقصود والمدروس والمخطط له مسبقاً.

وعلى غرار الأساليب القديمة في نشر الشائعات في معسكر الخصم، تقف أجهزة استخبارات كثيرة وراء حملات تضليل تُستخدم فيها الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. ولا جدال في أن درجة احتراف الواقفين وراء الحملات هذه متفاوتة لكن بعضها يحقق نجاحاً وانتشاراً كبيرين وتتحول المعلومات الخاطئة الى جزء من «الوعي» العام غير القابل للدحض عند حامليه.

مئات الصور ومشاهد الفيديو والأخبار التي تعرضت الى التلاعب عبر طرق تمتد من التجزئة إلى الفبركة الكاملة، باتت اليوم من الحقائق الراسخة. وتبدو كل محاولة للتصحيح من قبل الأطراف المتضررة جهداً ضائعاً بسبب كثرة المروجين. وليس نادراً أن تصل هذه المواد الكاذبة إلى وسائل الإعلام المُشكّلة لـ «التيار الرئيسي»، محطات التلفزة الفضائية والصحف الكبرى التي يقع العاملون فيها في شرك الترويج لأكاذيب صريحة وواضحة.

قصة المقتطفات المنسوبة الى كتاب وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون عن مشاركتها في تأسيس «داعش» مثال حديث على ذلك. هناك من رأى في الخبر الذي كان من السهل كشف زيفه، فرصة لتوجيه المزيد من الضربات إلى السياسة الأميركية –وكأن هذه تحتاج الى الأكاذيب للتعرف الى الكوارث التي تعممها-، وثمة من انزلق الى ترداد القصة لعيب في مهنيته ومستوى الوسيلة الإعلامية التي يعمل فيها.

الطوفان هذا من الأكاذيب والأخبار المزيفة يفرض على وسائل الإعلام والصحافيين (الراغبين في الحفاظ على حد أدنى من الموضوعية والمصداقية، وهؤلاء باتوا مثل الغول والعنقاء والخِلّ الوفي…) الالتزام بقواعد صارمة في قراءة المواد الخام أو ما يسمى «التدقيق المزدوج» الذي يفترض أن يتعلمه طلاب الإعلام في كلياتهم والذي تمتنع وسائل كثيرة عن استخدامه، كلٌّ لأسبابه.

تكسير الاصطفاف في المعسكر المعادي وراء رواية واحدة سائدة وتبرير التزييف بذريعة ضرورات المعركة، غالباً ما ينجحان مع غيرهما من تقنيات التضليل، في الجماعات الأقرب الى الوعي الخرافي أو الأسطوري، تلك التي لا تنبذ الحوادث الخارقة لقوانين الطبيعة من قاموسها ولا تجد مانعاً من الإيمان بالشعوذات. وهذا ما نحن عليه، بغض النظر عن اسم المعسكر الذي ننتمي إليه.

قبل «تأسيس» هيلاري كلينتون «داعش» وبعده، يظل المتلقي العربي هدفاً سهلاً لصنّاع الأكاذيب وسوقاً رابحة لبائعي الأوهام الذين لا يتورعون عن اعتماد الكذب الصريح سلاحاً في معارك «القضية العادلة» التي تسير من انتصار الى آخر ومن مجزرة إلى مجزرة.