IMLebanon

اللبنانيون ولبنان وحكّامهم

في خضم الاحداث الجارية في المنطقة وتهاوي السلطات المركزية في دمشق وبغداد، وبعد كبح التفجيرات في لبنان واكتشاف شبكة توزيعها، كان البلد يبدو كأنه مرشح لاستعادة أنفاسه.

احداث عرسال ومحيطها بعثت القشعريرة في نفوس اللبنانيين. فالاسلام الذي حمله المتطرفون الى لبنان هو غير الاسلام الذي يعرفه اللبنانيون، أي اسلام التسامح والتآخي والعيش بسلام واطمئنان بين المذاهب جميعاً.

خلال شهرين بدا المشهد في محيطنا وكأنه يوحي بالعودة الى ممارسات القرون الوسطى بالاسلحة الفتاكة للقرن الحادي والعشرين. هكذا كان المظهر في العراق، وفي سوريا، وبالتأكيد في غزة حيث مارس الاسرائيليون وحشية قل نظيرها في التاريخ الحديث حيال السكان العزل الآمنين.

ان الشك في انتقال الهمجية الى ربوع لبنان زعزع ثقة اللبنانيين باستمرار وطنهم، وطنا للتعايش والتآخي والتآزر. والجيش الذي هو في موضع المواجهة احتاج ولا يزال الى تسليح يمكّنه من جبه تحدي المتطرفين، والتقصير في تسليم الجيش بما يحتاج اليه لصون حياة اللبنانيين كان فاضحا، خصوصا أن الاختبار الاول في مواجهة هؤلاء في نهر البارد قبل بضعة سنوات فرض علينا، كوطن ومواطنين، الاستعداد لمواجهة التطرف والتغلب على ممارسات المتطرفين.

لقد درج اللبنانيون على تهديم قواعد الحياة المستقرة منذ ان استندوا الى مبدأ المساومة في حل المشاكل الكبرى والصغرى، والمساومة لا تجدي ولا تقتلع جذور الشر، بل قد تطمرها لفترة زمنية تعود بعدها الى التفتح والاعتداء على حياة اللبنانيين وآمالهم.

ان هذا البلد عجيب في استمرار أهله في تعلقهم بلبنان. سنوات الحرب الاهلية 1975 – 1990، وسنتا حربي التحرير والالغاء، لم تطفئ في اللبنانيين الرغبة في التمسك ببلدهم وتعميق جذور الانتماء اليه سواء بتملك المساكن، والمصانع، والاراضي، أو اعتماد المصارف اللبنانية لحفظ مدخراتهم، وهذه حظيت باستقرار في سعر صرف الليرة ازاء الدولار مدى عقدين من الزمن 1994 – 2014.

وبعض الاحصاءات يبين عمق تعلق اللبنانيين بلبنان الوطن، وما سميناه مرقد العنزة في لبنان.

بلغ مجمل رخص البناء من 1993 الى 2013، 276,36 مليون متر مربع، وعلى افتراض ان عدد اللبنانيين المقيمين هو على مستوى 4,2 ملايين نسمة، تكون الرخص عند اكتمالها، والبناء يستلزم ما بين سنتين واربع سنوات، موازية لمساحة وسطية لكل لبناني مقيم توازي 63,6 متراً مربعاً. وجدير بالذكر ان متوسط مساحات الشقق لذوي الدخل المتوسط في فرنسا لا يتجاوز الـ65 متراً مربعاً للعائلة الواحدة المؤلفة وسطياً من اربعة افراد وتالياً ان لدى اللبنانيين طاقة استيعابية تفوق ما هو متوافر في بلد متقدم، وفي هذا المؤشر الكثير من الدلائل على التعلق بالوطن والاقامة فيه.

وثمة مؤشر آخر له دلالاته. يبلغ مجموع الودائع لدى المصارف اللبنانية سواء في لبنان، أو في فروع المصارف اللبنانية في الخارج، 150 مليار دولار، ومن هذا المجموع نسبة 80 في المئة للبنانيين، أي 120 مليار دولار، ويجب ان نضيف الى هذا الرقم الضخم، ودائع اللبنانيين وارقام ممتلكاتهم في الخارج، وحينئذ ننتهي برقم يتجاوز الـ200 مليار دولار. في هذا المقال نكتفي برقم الـ120 مليار دولار من الودائع في المصارف اللبنانية وفروعها الامر الذي يعني وسطياً ان معدل ادخار كل لبناني، من الـ4,2 ملايين المقيمين في لبنان، يبلغ 28,571 دولاراً، وهذا رقم يتجاوز ارقام الادخار في معظم البلدان النامية.

ماذا نفعل للمحافظة على الثروة العقارية في لبنان؟ الطرق مزدحمة، والبيئة على تردٍّ، وشبكات المياه عاجزة عن كفاية الحاجات، والكهرباء حدث عنها ولا حرج، وهذا الوضع المزري كان في الامكان تفاديه لو سرنا ببرنامج للامركزية الادارية ووسعنا صلاحيات البلديات، كما تأكدنا من حسن تسييرها لشؤون الناس.

لو قدّرنا وسطيا قيمة المتر المربع من البناء بـ500 دولار فقط، وافترضنا ان هنالك 400 مليون متر مربع من البناء في لبنان، انطلاقا من ان رخص 20 سنة فاقت الـ267 مليون متر مربع، تكون الثروة العقارية المتمثلة بالأبنية على مختلف انواعها، تفوق الـ200 مليار دولار. واستمرار تردي الخدمات العامة سيؤدي بالتأكيد الى تناقص هذه القيمة ما بين خمسة و10 في المئة سنويا، ما دامت تجهيزات البنية التحتية غير موازية للحاجات. بكلام آخر، نخسر وان بشكل غير محسوس 10 – 20 مليار دولار سنويا من هذه الثروة الوطنية.

ان الحكم العاجز عن حماية ثروات اللبنانيين، والى حد ما حياتهم، منشغل منذ سنتين واكثر بمطالب المعلمين، التي يفترض تعميمها على سائر موظفي القطاع العام، باستثناء اساتذة الجامعة اللبنانية، والقضاة، الذين حصلوا على تعديلات جذرية في رواتبهم وتعويضاتهم قبل سنتين.

والحكم، وأفرقاء 14 آذار و8 آذار، يتساهلون في مطالب المعلمين، ولا يحاسبونهم على تجاوز أعدادهم للمستويات المطلوبة في المجتمعات المتقدمة، كما لا يحاسبونهم على كفاياتهم العلمية والتعليمية، وقد باتوا مرتهنين لموجات المطالبة المتصاعدة. والحكام، كما فريقا 14 آذار و8 آذار، لا ينظرون الى ما حصل في بعض البلدان الاوروبية، المقاربة اوضاعها للبنان، مثل البرتغال واليونان، حيث خفضت رواتب موظفي القطاع العام بنسبة 20 في المئة واستغنى عن نسبة 20 في المئة من هؤلاء.

ربما لسنا في حاجة الى خفض الرواتب، شرط خفض عدد المعلمين الفائضين عن الحاجة. والحكم الذي يرضح لصراخ حنا غريب، الذي يرفض ان يناديه زملاؤه باسمه ويقول لهم إن اسمه ليخ فاونسا تشبها بالزعيم العمالي البولوني الذي قاد الثورة انطلاقا من احواض بناء السفن في غدانسك، ومن بعد تولى رئاسة الجمهورية سنوات كادت ان تؤدي الى افلاس بولونيا، التي استعادت صحة القرار والتطور بعد انقضاء رئاسته.

ليخ فاونسا لبنان لا يميز بين المليون والمليار ويوزع احكامه الاقتصادية الهمايونية على أفواج المعلمين، والسياسيون لا يجدون سبيلا لمواجهته الا التسويف. وقت المساومة انتهى، في عرسال كما في شوارع بيروت ومدارسها، وموقف وزير التربية بالنسبة الى تصحيح الامتحانات، وامكان ابدالها بامتحانات تجريها المدارس المعنية لتحديد قدرة الطلاب على الالتحاق بالجامعات، أمر يستحق التقدير.