IMLebanon

اللبنانيّون السنّة..  مقاصديّون أم أيتام

لا بد من الاعتراف للقارئ  بأنّ الكاتب مهما اتسع وعيه وادراكه ومعلوماته يبقى أسير تخاطبٍ بعينه مع أشخاص بعينهم.. وأنا أعترف بأنني أخاطب في كل مقال أشخاصاً أو شريحة أو مجموعة بعينها وهي تتغيّر بتغيّر الموضوعات.. وانني خلال كل المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية حرصت أن أخاطب اللبنانيّين المسيحيين لأنني كنت أدرك أهمية إحساسهم بالاستقرار والثبات في ظل كل تلك الزلازل والويلات التي تدور من حولنا ونعيش ارتداداتها على الكيان اللبناني.. ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة.. كنت أتمنى أن ينتبه اللبنانيّون المسيحيّون للفرصة التاريخية المتاحة أمامهم لانقاذ جمهوريتهم، بتقديم الجمهورية على الرئيس.. وأن يدركوا بأنّ اللبنانيين المسلمين بحاجة إلى أن يملأ المسيحيون الفراغ المسيحي ويقدموا للجمهورية رئيساً يمثّل تسامحهم الوطني وارادتهم بالعيش معاً ويكون تجديداً للهوية الوطنية..

لا داعي للنقاش الآن.. لم يحدث ما كان يجب أن يحدث ووقع الشغور وبدأ الفراغ يعكس مستوى الخواء الوطني والعجز والاستسلام لدى كل المكونات الوطنية العزيزة التي تسبّبت بتفتيت المجتمع واعاقة قيام الدولة واكتفت بالابتكارات السخيفة لما يعرف بإعادة تكوين السلطة اي التسليم بالامر الواقع..

حاولت مخاطبة كل المكونات الدينية والسياسية والشباب والمفكرين والإعلاميين والعلمانيين وأيضاً العديد من الشخصيات العامة ثناءً أو إنتقاداً.. لا بد أن نحاول وبدون كلل أن لا ننسى بأنّ كل المكونات اللبنانية على تنوعها وثقلها في بعض الأحيان بانها مجتمعة تشكّل العناصر المكوّنة للهوية الوطنية وهي ألف باء المواطنة.. وأنه علينا أن لا نكف عن التخاطب والمحاولة…

كل تلك المخاطبات كانت نابعة من لبناني سني  كنت أستحِثُّ فيها المكونات الوطنية على عدم الاستسلام لليتم السياسي والاستمرار بالمقاصدية والتي هدفت إلى التكامل الوطني النهضوي الذي تمثّل بالانبعاث العلمي والثقافي في بيروت  في نهايات القرن التاسع عشر.. من المدارس اليسوعية وراهبات القديس يوسف الى الارساليات الأنجيلية السورية والمؤسسات الكاثوليكية ومدرسة الحكمة والثلاثة اقمار ومدرسة المعلم بطرس البستاني.. والكلية السورية الانجيلية عام 1866 (الجامعة الاميركية اليوم) والكلية اليسوعية عام 1875..

وجاءت الحركة المقاصدية الاسلامية في العام 1878 متّخذةً من مقاصد الدين الخمسة، وهي حق النفس وحق العقل وحق الدين وحق النسل وحق التملّك، رسالةً حداثية عصرية.. ساهمت الحركة المقاصدية بتعزيز التماسك الاجتماعي والوطني بالعلم والمعرفة والحرية التي تجسّدت بالمساهمة الفاعلة في معركة الاستقلال الأولى عن الخلافة العثمانية.. استطاعت الحركة المقاصدية استيعاب فكرة لبنان الكبير وجذب طرابلس وصيدا والأطراف إلى تعزيز الانتماء اللبناني واستمرت بتقدّمها في كل مراحل تطور لبنان الكبير وانتكست كما غيرها من المؤسسات الوطنية في الأحداث اللبنانية..

بدأت الحركة المقاصدية بالتراجع وبدأت تُنازِعُها رسالتَها دولٌ ومؤسسات وتيارات وأحزاب وعائلات ومرجعيات روحية وزمنية.. وترافق ذلك مع بدايات ملامح الإنهيار والإنقسام وتراجع الإلتزامات الوطنية لدى كل المجموعات.. وسادت عقلية تقاسم الأرباح على ضرورات رفع الإستثمار في التجربة الوطنية.. وسيطرت الأرياف على المدن وتحوّلت بيروت من قاطرة للتقدّم والإزدهار إلى ساحة للنزاعات والباقي تعرفونه.. فاستُتْبِع اللبنانيون السنّة وأُخرجوا من مقاصديتهم..

تجدّدت الحركة المقاصدية في العام 79 مع رفيق الحريري أي بعد مئة عام على الحركة المقاصدية الأولى.. وأعيد الإستثمار بالتعليم وعادت الروح المقاصدية إلى اللبنانيّين السنّة وقطرت معها المؤسسات العريقة.. من الجامعة الأمريكية الى اليسوعية والعربية واللبنانية الأمريكية.. وأحدثت حركة تنويريّة وأعادت الاستثمار في الشراكة الوطنية.. وكانت بمثابة تجديد للهوية واستطاعت ان تتصدى للتطرّف والعنف وأعادت الأمل لعشرات الآلاف من الشباب اليائس والمضطّرب.. وأقامت جسور المصالحة بين الأرياف والمدينة..

إن كلّ ما سبق ما هو إلا تبسيط واضح وصريح برسم كل اللبنانيين اللذين يتحدّثون الآن عن الارهاب والخلافة والقتل والتهجير.. ويستهونون ربط اللبناني بغير اللبناني.. ويفتحون الحدود مرّة أخرى للطائفية والمذهبية على نزاعات المنطقة وأهوالها.. وقد قمنا جميعاً بما علينا لسنواتٍ طوال وجرّبنا القتل والدمار والاستقواء بالخارج أو اعتبار انفسنا أيتاماً لامتداداتنا الطائفية والدينيّة..

لذلك كنت أخاطب اللبنانيين السنّة وخصوصاً خلال السنوات العشر الأخيرة أي ما بعد الاغتيال، مستدعياً مقاصديّتهم العلمية والفكرية والسياسية والديمقراطية والتكاملية على قاعدة مقاصد الدين السامية والتي هي جوهر شريعة حقوق الانسان.. وأبديت مخاوفي خطيّاً وشفهيّاً مدافعاً عن المقاصدية الجديدة، وأنّه علينا ألا نعود الى رعاية دار الأيتام السياسية والتعامل مع مواطنينا بأنهم أيتام يحتاجون الى أبوّة من هنا أو هناك.. وعدم تدمير جسور المصالحة بين الأرياف والمدينة..

حاولت عن قرب وعن بعد كما حاولت مع كلّ المكوّنات والشرائح والمجموعات والطوائف والأحزاب والتيارات أن أُغلب روح النهضة المقاصدية على مأساوية دار الأيتام، وأن يتمسّك اللبنانيّون السنّة بالثقافة المقاصديّة عوضاً عن ثقافة اليتم السياسي.. بصدق لا أعرف الجواب..