“اللبننة” لا تصنع رئيساً.. و”الأوراق الحمراء” تطارد جعجع
..نحو الفراغ في انتظار نصاب التسوية
كتب المحرر السياسي:
..أما وإن “مسرحية” الجلسة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية انتهت وفق السيناريو الذي رسم لها، فإن السؤال المطروح الآن: الى أين؟
أغلب الظن، أن الإجابة ستظل معلّقة حتى إشعار آخر في الأفق الغامض والضبابي للاستحقاق الرئاسي، باعتبار أن أحدا من المعنيين بهذا الاستحقاق في الداخل والخارج، لا يملك كل أجزاء الصورة المبعثرة التي تتوزع نتفاً هنا وهناك.
وإزاء الافتقار الى الوضوح في الرؤية، والنقص في المعطيات الصلبة، تكثر الاجتهادات المتضاربة الى حد التناقض، إذ يجزم بعضها بحتمية الدخول الى حقبة “الفراغ” في 25 أيار المقبل مع مفعول رجعي بدأ منذ بعد ظهر أمس، لغياب قوة الدفع الخارجية وعدم نضوج الصفقة الرئاسية حتى الآن بين عواصم القرار، وما الإصرار على تشكيل الحكومة الائتلافية إلا كي تملأ هذا الفراغ المتوقع. وفي المقابل، تروّج تقديرات أخرى لـ”رئيس وشيك” ضمن مهلة السماح الدستورية، استكمالاً للمسار الإقليمي ـ الدولي الذي أنتج حكومة المستحيلات، والبيان الوزاري “العجيب”، والخطة الأمنية في طرابلس والبقاع… وزيارة وفيق صفا الى وزارة الداخلية.
والأكيد، أن ما حصل أمس في مجلس النواب هو الحد الأقصى الممكن من “اللبننة” للانتخابات الرئاسية. هذا هو المدى الذي يستطيع أن يصل إليه اللبنانيون لوحدهم، من دون مساعدة “صديق”. جلسة مكتملة النصاب، لكنها منقوصة التوافق، والنتيجة عرض إضافي من انتاجات “تلفزيون الواقع”، أتاح للمشاهدين بعض التسلية، ولكنه لا يقدم ولا يؤخر في انتخاب الرئيس الذي يُصنع اسمه في أمكنة أخرى.
ومع رفع الرئيس نبيه بري الجلسة الاولى بعد تطيير نصاب الدورة الثانية، يكون “الهامش الداخلي” للعبة الانتخابية قد انتهى عمليا، وإن يكن سيظل ساري المفعول نظريا حتى 25 أيار، موعد انتهاء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية، لتبدأ بعد ذلك، أو قبل، محاولات تأمين نصاب إقليمي ـ دولي للتسوية، تمهيداً لولادة رئيس توافقي، كما تتوقع أوساط سياسية في 8 و14آذار.
ربما ستطرأ خلال الأيام المقبلة بعض التعديلات على التضاريس المحلية لـ”الجغرافيا السياسية” المتصلة باللعبة الانتخابية، غير انها لن تكون حاسمة في بلورة هوية الرئيس المقبل، لا الأربعاء المقبل، ولا في أي أربعاء آخر، إلا إذا حصلت معجزة سياسية، تبدو مستبعدة في ظل توازن القوى الداخلي الذي يتيح لكل من فريقي “8 و14آذار” التحكّم بنصاب الدورة الثانية للانتخاب (86 نائبا)، وإن تكن أكثرية 65 نائبا تصبح كافية للفوز بالرئاسة في هذه الدورة.
ومن شأن هذه القدرة المشتركة على تعطيل نصاب الدورة الثانية أن تجعل أي مرشح محكوماً بالحصول على تأييد واحد من فريقي “8 و14آذار”، زائداً كتلة واسعة من الفريق الآخر للوصول الى قصر بعبدا، وهو الأمر الذي لا يبدو متوافراً في الوقت الحاضر لأي من المرشحين المعلنين، وفي طليعتهم رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، إلا إذا استفقنا غداً وقد سقط النظام السوري ووصلت “داعش” الى السلطة في دمشق، وهاجمت الولايات المتحدة إيران، واجتاحت اسرائيل الأراضي اللبنانية وصولاً الى الضاحية الجنوبية، وأصبحت السعودية اللاعب الاقوى في المنطقة… عندها، قد تصبح فرص جعجع بالرئاسة أكبر مما هي عليه حالياً.
وفي كل الحالات، يفترض أن تكون “مزحة” ترشيح جعجع قد بلغت خواتيمها، مع رفع جلسة الأمس، وما رافقها من ” زفّة العريس” من ساحة النجمة الى معراب. في الأساس، لم يكن رئيس “القوات” نفسه يصدّق أن هناك إمكانية ولو ضئيلة لانتخابه رئيسا للجمهورية. هو أراد من ترشّحه أن يحقق أهدافا أخرى، ربما يكون قد نجح في تحقيقها، الى هذا الحد او ذاك، وبالتالي فإن استمراره في المعركة بعد اليوم لن يعدو كونه مكابرة سياسية، ستزعج أولا العديد من حلفائه، وفي طليعتهم الرئيس أمين الجميل الذي يعتبر أنه قام بواجبه حيال جعجع، في الدورة الاولى، وعليه أن يرد له الجميل في الدورة الثانية.
الأرجح، أن الـ48 صوتاً التي نالها جعجع في الجلسة الانتخابية كانت كافية له، للإعلان عن “انتصار رمزي”، تمثل في دخوله الى نادي “مرشحي رئاسة الجمهورية”، وظهوره كمرشح وحيد لقوى “14آذار”، ولو في الدورة الاولى. والفضل في هذا الانتصار يعود بشكل اساسي الى “كتلة المستقبل” التي سبحت في عكس المزاج الإجمالي للشارع السني عموماَ، والطرابلسي خصوصا، ومنحت حليفها المسيحي “حصانة” عابرة لماضيه، ولملفات ضحاياه، الأحياء منهم والشهداء.
لكن هؤلاء الشهداء كانوا “الكتلة” الأبرز في جلسة البارحة، ولعلّ حضورهم جاء أثقل وزناً وأشدّ وقعاً من حضور الكثيرين من النواب. والأرجح أن رشيد كرامي، وداني شمعون وابنه طارق، وجيهان طوني فرنجية، والياس الزايك، أفسدوا على جعجع “فرحة” الأصوات الـ48 التي أراد من خلالها تعديل وجهة سيرته الذاتية.
أما العماد ميشال عون، فهو فاز ضمناً على جعجع بـ52 ورقة بيضاء اقترع بها معظم نواب “تكتل التغيير والاصلاح” وأطراف “8آذار”، تضاف اليها ستة أوراق “حمراء” ملغاة لتضمّنها بعض أسماء ضحايا “القوات”. ومع ذلك، لا يزال عون يقاوم محاولات تقديمه كمجرد “مرشّح”، ويستعين بمخزونه الإحتياطي من الصبر، في معرض انتظاره نضوج فرصة انتخابه رئيسا… توافقياً.
يتجنب عون أن يحرق “ورقته” في الوقت الضائع. هو يعرف أن الانتخابات الفعلية لم تنطلق بعد، وقد لا تبدأ قبل 25 أيار. لا يبدو الجنرال مستعجلاً، ولا بأس إن استغرق الحوار الهادئ مع “تيار المستقبل” وعمقه السعودي بعض الوقت، ولا بأس أيضاً إن قاد هذا الحوار الى تقديم بعض التنازلات المدروسة، إذا كان من شأن ذلك ان يمهّد الطريق أمام انتخابه رئيساً للإنقاذ وليس لإدارة الازمة.
وقالت مصادر مطلعة لـ”السفير” إن عون أكّد لحلقة ضيّقة من المقرّبين أن لقاءه مع الرئيس سعد الحريري كان أكثر من جدّي ومثمر، “حيث اتفقنا على جملة من القواسم المشتركة تتمحور حول الرئاسة الاولى ومسار عمل المؤسسات الدستورية في المرحلة المقبلة”.
واعتبر عون أنه في حال وصوله الى سدة الرئاسة الأولى سيكون الحريري رئيسا لحكومات عهده، لافتا الانتباه الى أن اتفاقهما في حال حصوله وانسحابه على رئاستي الجمهورية والحكومة، سيعيد التألق الى السلطة التنفيذية، وسيعزز التوازن بينها وبين السلطة التشريعية.
…ويبقى النائب وليد جنبلاط الذي أحسن التعامل مع “الوقت الضائع”، بترشيح النائب هنري حلو الى الرئاسة. نال حلو 16صوتاً، استطاعت أن “تشوّش” بعض الشيء على جعجع، وأن تمنح مخارج للراغبين في التفلّت من إحراج الخيارات الأخرى، والأهم أن حلو رفع سعر بيضة القبان الجنبلاطية، متى حان أوان التسوية.