جميلةٌ هي الفرَس، لكنّ الأجمل أن يكون مهمازُها في يَد سائسها لتُعطي أفضل ما عندها حينما تنطلق في ميدان السباق. وجميلةٌ هي المبادرات لمَلء الفراغ الرئاسي، لكن تبقى الإرادات هي الأجمل، وأيّ مبادرة مهما كانت خلّاقة، تبقى مجرَّد حبرٍ على ورق ما لم تتلقّفها الإرادة المصمّمة لوضعِها موضع التنفيذ.
لبنان لا تعوزه المبادرات بل الإرادات، وهي منقسمة حول مشروعَين وتوجّهين، الأوّل مع الانتخابات لجَبه التحدّيات، فيما الثاني مع المواجهات لفرضِ الخيارات.
شاعَ كلام في آذار الماضي عن تفاهم أميركي – فرنسي في شأن الاستحقاق، بحيث تتولّى باريس الإخراج، وإذ بالأيام تُثبِت أنّ ما أشيع كان يفتَقر إلى الصدقيّة. صحيح أنَّ مواقف إيجابيّة مشجّعة قد صدَرت عن مسؤولين فرنسيّين، لكنّ النتائج واضحة: الفراغ يقطن قصر بعبدا. يخوض السفير الفرنسي باتريس باولي في الموضوع من موقع التنبيه والنصح والتمنّي، كغيره من السفراء، وليس من مبادرة يُمكن البناء عليها.
يعود الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ديريك بلامبلي إلى بيروت بخُفَّي حُنين، رافقه في زيارته الى نيويورك كلام واعد عن مساعٍ يقوم بها لتسهيل الانتخاب، وعن مبادرة سيحملها لحلحلة العقد، وإذ هي مجرّد نصيحة الى اللبنانيين بوجوب الإسراع في انتخاب الرئيس؟!».
لبنان ليس أولويّة، والمجتمع الدولي عنده ما يَكفيه، يتفرَّج على مجازر غزّة بعيون جاحظة من دون أن يأتي بحراك سوى دعوات إلى وقف إطلاق النار. يُهجَّر مسيحيّو الموصل وتُحرَق كنائسُهم، ولا يرفّ له جفن، عينه على النفط. أحداث العراق، اليمن، ليبيا، من منظاره، أهمّ بكثير ممّا يحصل في جرود القلمون. هناك منابع الغاز والطاقة، هنا منابع الكيديات. الضالعون في لعبة الفراغ يتمادون، لكنّ عامل الوقت لم يعُد لمصلحة أحد، والجميع في دوّامة الاستنزاف، يخوضون معارك عبثيّة لتأكيد الأحجام والأوزان، وإثبات الدور والحضور.
يخوض البعض معارك الحفاظ على مكتسبات الطائف، قد فاتَته روح المبادرة التي تؤمّن الإجماع الوطني. ويخوض البعض الآخر المعارك في سوريا والقلمون دفاعاً عن المشروع، وقد أصبح رهينة الكرّ والفَرّ، والجولات المتلاحقة المفتوحة على المجهول.
بات الانتظار مكلفاً للجميع، وكلّ طرف له رهاناته، وينتظر تغيير موازين القوى لمصلحة مشروعه أو طروحاته، لكنّ التغيير يَبقى أسيرَ المصالح الدوليّة – الإقليميّة. إيران لم تُنهِ حساباتها الجارية مع المجموعة الدوليّة، ورفعُ العقوبات لا يزال أولوية.
تركيا عينُها على إقليم كردستان من جهة، وعلى مصر – السيسي من جهة أخرى، والدور الذي يُسنَد إليها في المحيط الإقليمي. الخليج يسبَح وسط يَمٍّ من النوائب المتلاطمة، «داعش» في العراق على الحدود، والحوثيّون في اليمن أيضاً، والنفوذ الإيراني يتمدَّد عبر مضيق هرمز، وما يجري في غزّة ليس بالقليل.
تخوض إسرائيل معركة إثبات التفوّق، والقدرة على إملاء الشروط، فيما تخوض «حماس» معركة إثبات الوجود، وأيّ إعلان لوقف إطلاق النار سيتعاطى معه كلّ طرف وكأنّه إعلان هزيمة إنْ لم يُؤخَذ بشروطه ومطالبه، فالكلفة باتت مرتفعة، والأثمان باهظة، فيما المبادرات المتداولة تعكس نزاع المحاور ما بين السعودية ومصر من جهة، وقطر وتركيا من جهة أخرى.
قد تُحفِّز الدمويةُ السافرة في غزّة مجلسَ الأمن على التحرّك، وربّما التدخّل بناءً على طلب إسرائيل والولايات المتحدة، لوضع حدّ لأنهار الدم، لكنّ ما يحصل في جرود عرسال مختلف، وكذلك المشهد في كلّ من سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، وسائر دول «الربيع العربي»، وكأنّ المطلوب دوليّاً – أو المسموح به – أن يخوض كلّ طرف معركة إثبات الوجود، أقلّيات ضدّ أقليات، وأقليات ضد أكثريات، ومذاهب ضد مذاهب، وإسلام متطرّف ضد إسلام معتدل،»غزوات» تستنزف الجميع، ومَن يصمد إلى المنتهى يخلص.
وفي لبنان أيضاً معارك استنزاف من كلّ الأنواع، أثمَرت حتى الآن فراغاً، والفراغ أباحَ الفوضى، والفوضى تستَبيح كلّ شيء، ومن يزرع الريح يحصد العاصفة.