قد تكون مبالغة سياسية غير مألوفة رمي مسؤولية استمرار «الشغور» في موقع الرئاسة الأولى، على الافرقاء المسيحيين، لاسيما الموارنة منهم، دون سائر الافرقاء…
فرئيس الجمهورية وإن كان يفترض «ميثاقياً» ان ينتمي الى الطائفة المارونية، فهو رئيس جمهورية لبنان، كل لبنان، بكل أطيافه ولا تمييز بين منطقة ومنطقة، طائفة وأخرى، مذهب وآخر… ويشارك في انتخابه سائر أعضاء مجلس النواب، من سنّة وشيعة وموارنة وكاثوليك وارثوذكس ودروز وأرمن وسائر الاقليات، بمن فيهم أولئك الذين يؤمنون بفصل الدين عن الدولة، وان كانوا قلّة… تماماً كما يشتركون في انتخاب رئيس مجلس النواب (الشيعي) وتسمية رئيس الحكومة (السني)…
هكذا يكون رمي كرة المسؤولية في تعثر او تعذر انتخاب رئيس الجمهورية، في ملعب «التوافق الماروني»، تنصل من المسؤولية، خصوصاً وان الساحة المسيحية، هي الساحة الوحيدة التي تتصف بتعددية سياسية ومرجعيات قيادية وحزبية، خلاف الساحتين السنية – حيث المرجعية الأساس واحدة، والباقي «فراطة» او ملاحق – والشيعية التي تتصف بثنائية شبه متعادلة، قابضة على البيئة الديموغرافية، تماماً كما البيئة الدرزية الموزعة تاريخياً بين الثنائية الجنبلاطية والارسلانية على رغم الخروقات الحزبية المتعددة…
وحدها «البيئة المسيحية» تشهد تنوعاً غنياً وبالغ الأهمية، يتمنى كثيرون لو يعم سائر البيئات الحاضنة للقوى السياسية، الطائفية والمذهبية… حيث نرى في هذه البيئة «القوات اللبنانية» و«الكتائب اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، و«المردة» و«الاحرار» و«الكتلة الوطنية» و«القومي»، وإن بنسب مختلفة، حيث يتصدر الواجهة الأربعة الأوائل: ميشال عون، سمير جعجع، أمين الجميل وسليمان فرنجية… كما نرى البطريركية المارونية التي كان لها منذ أوائل القرن الماضي، دور سياسي متقدم وبارز..
«الديموغرافيا» في لبنان خدعة، أي «التنوع في الوحدة» و«الوحدة في التنوع»… وهي مجرد اطار شكلي لا أكثر ولا أقل، تتفق مرجعيات الطوائف والمذاهب، فيكون الشكل موحداً في الظاهر، وعندما يختلف هؤلاء، (كل عقد او عقدين من السنين) يكون لبنان وقع في فخ الحروب الداخلية، التي تكررت أكثر من مرة، وتحت عناوين مختلفة، خصوصاً عندما تكون «المسيحية» بل «المارونية السياسية» موحدة تحت قيادة واحدة ذات تطلعات لا تتفق وتطلعات سائر مكونات الواقع اللبناني، خصوصاً «السنية السياسية»…
من حسنات الانقسامات في لبنان، أنها انقسامات سياسية بالدرجة الأولى، وعابرة للطوائف والمذاهب والمناطق، وإن بنسب متفاوتة… الأمر الذي يشجع على دعوة الافرقاء السياسيين كافة، داخل مجلس النواب، للنزول الى المجلس، لينتخبوا رئيساً للجمهورية، وليكن هناك رابح وليكن هناك خاسر…
من المبالغة في المثالية رهن انجاز الاستحقاق بـ«التوافق»… والواضح الى الآن، ان رمي كرة التأجيل في ملعب «التوافق» يعني بوضوح ان «الطبخة الخارجية (الدولية والاقليمية والعربية) لم تنضج بعد، او ان البعض يراهن على تطورات خارجية ما لم تؤت أكلها بعد»؟!
صحيح ان لمرشح 14 آذار، سمير جعجع برنامجه… وهو «مقفل على ذاته…».
وصحيح ان لمرشح 8 آذار المضمر، النائب ميشال عون برنامجه، وقد فتح على «المستقبل»
وصحيح ان للمرشح الوسطي النائب هنري حلو برنامجه (الجنبلاطي)… لكن اللافت ان «الرؤوس السياسية» للطائفة المارونية (ناهيك بالمرشحين المضمرين) لا يلتقون… وإن التقوا لا يتفقون على قواسم مشتركة، الأمر الذي سهل رمي كرة تأخير او تعطيل الانتخابات الرئاسية في مرمى «التوافق المسيحي…»؟!
يخطىء البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي (الذي يبكي قلبه دماً على ما يجري على ما قال المرشح جعجع) إذا أوقف كل حركة ضاغطة باتجاه إجراء الاستحقاق، وذلك على رغم ما كان أعلنه في أوقات سابقة عن أهمية فصل الدين عن السياسية والسياسة عن الدين… ومع ذلك، فإن جمع «قيادات الصف الأول» من الموارنة – اذا اجتمعوا – لا يقدم ولا يؤخر، فلكل واحد من هؤلاء كيانه السياسي، وبيئته الشعبية الحاضنة، التي في بعضها باتت عابرة لبعض المناطق والطوائف، (سياسياً) فلماذا يراد لسيد الصرح الاستسلام لطلب «ليتفق الموارنة أولاً، لنفرج عن الاستحقاق»؟!.
ليس من شك في ان «التنوع» في البيئة المارونية دليل عافية سياسية، لا دليل ضعف، وتأسيساً على هذا، فإن المطلوب هو ان يستفيد الكل، من تجربة (الرئيس السابق) ميشال سليمان الغنية وقد أودعها أمانة لدى الرئيس الجديد، الذي لم يولد بعد… في ان يعود لرئيس الجمهورية دوره، كحاكم وكحكم، وفي ان يخطو لبنان خطوات إصلاحية جذرية، على مستوى قانون الانتخابات النيابية، التي بدأت التحضيرات لها في وزارة الداخلية، على ما قيل، كما على مستوى «اللامركزية الادارية…».
صحيح ان هناك «مخاوف» دولية من استمرار الفراغ الرئاسي، وهي مخاوف مشروعة بالنظر الى الظروف الاستثنائية القاسية التي تمر بها المنطقة – من العراق الى سوريا الى فلسطين واليمن ومصر وليبيا – كما بالنظر الى الأوضاع الداخلية المستجدة على وقع الاهتزاز الأمني الضاغط، تحتم إجراء الانتخابات الرئاسية في أسرع وقت ممكن، والمجيء برئيس بشكل «مظلة سياسية» تقوى وتشتد بقدر ما يكون محاطاً بقوة داخلية… وهذا يشكل دافعاً إضافياً – لا لرمي كرة المسؤولية على «القادة الموارنة» – لكي يحزم الافرقاء المعنيون أمرهم وينزلوا الى المجلس النيابي وليقترعوا، ولينجح من ينجح… فالربط بين التفجيرات وتأخر انجاز الاستحقاق الرئاسي غير موضوعي كفاية، وهو أمر مقلق؟!