لم تلقَ الأنباء الواردة من العراق حول طرد المسيحيين من الموصل ردودَ الفعل المطلوبة، ما عزَّز الشعورَ بالقلق لدى ما تبقّى من مسيحيّين في الشرق، والذين باتوا محصورين بسوريا ولبنان، على رغم الفارق في ترجمة هذا الحضور بين البلدين المتجاورين.
وعلى رغم الحضور المسيحي السياسي القوي بسبب المقوّمات التي حصل عليها مع نَيل لبنان استقلاله، والتي أضاع جزءاً أساسياً منها مع انتهاء الحرب اللبنانية والدخول في الجمهورية الثانية، إلّا أنّ مسيحيّي لبنان لم ينجحوا، أو ربّما لم يفطنوا يوماً للعب دور القيادة المسؤولة عن الحضور المسيحي المشرقي عبر سياسة حكيمة وأسلوب ذكي.
وعلى رغم الكوارث التي تلاحق هذا الوجود، خصوصاً مع سقوط الانظمة وزوال الاستقرار الداخلي لدوَل سايكس ـ بيكو، بقيَ مسيحيّو لبنان أسرى شعارات سطحية لا تَمتُّ إلى عمق الأحداث الدائرة بأيّ صلة. وبقيَت عقول هؤلاء وقلوبهم متعلقة بـ»الخلاص» الآتي من الغرب، وتشيح النظر عن المؤشّرات المرعبة التي تتلاحق في الشرق العربي.
وعلى عكس المسيحيّين، نسَج الدروز علاقات متينة، ولكن غير متطوّرة، مع إخوانهم في سوريا وفي إسرائيل، ولو وفقَ سياسة معلنة مستقلة استقلالاً كاملاً لكنّها قائمة على قاعدة صلبة ومتينة قوامُها حماية الوجود الدرزي وضمان مستقبله.
كما أنّ الطائفة السنّية في لبنان والمتسلّحة بالعمق السنّي الكبير في العالم العربي سعَت دائماً لربط الساحة اللبنانية بالنبض السياسي الذي كان يطرأ على البلدان العربية. فمرّة مع عبد الناصر في عزّ صعوده ومرّات مع المملكة العربية السعودية، ومحطّات أُخرى مع سوريا قبل وصول حزب البعث إلى السلطة، إضافةً إلى التزاوج مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ولا شكّ في أنّ هذا التواصل أعاقَه الحاجز الجغرافي الناشئ عن إمساك العلويّين بالسلطة في سوريا وما لبث هذا التواصل أن عاد وبزخمٍ أكبر، ولو من خلال عناوين «الثورة الشعبية السورية على نظام ديكتاتوري فاسد»، أو من خلال عنوان عريض وهو النزاع العربي ـ الإيراني.
كذلك لم يتأخّر أبناء الطائفة الشيعية كثيراً في اللحاق بمبدأ التفاعل مع إخوانهم في الشرق الفسيح، وواضح أنّ الصحوة الشيعية في هذا الاتّجاه بدأت مع الثورة الإسلامية في إيران والتي انتهجت يومها مبدأ تصدير الثورة. والواضح أنّ نجاح شيعة لبنان بمساعدة إيران على تنظيم أنفسهم في إطار حزب الله دفع الأمور في اتّجاه واقع جديد.
لذلك لم يكن مستغرباً انخراط الحزب في معارك سوريا، وهو مستعدّ، إذا دعت الحاجة للتوجه إلى العراق. وقبل ذلك جاء نشاطه وفقَ العنوان نفسِه في بعض بلدان الخليج العربي، كذلك جاءت محاربتُه وفق هذا المفهوم.
وحدَهم المسيحيّون كانوا غائبين عن هذا الواقع، واستبدلوا الدَهاء السياسي الذي يجب أن تحظى به الأقلّيات عادةً بنظرة عاطفية تجاه الغرب. هكذا نادى بعض زعمائهم بأنّ ما حصل لمسيحيّي العراق لا علاقة للّبنانيين به وبنَوا سياستهم على هذا الأساس، وعندما اندلعَت الأحداث في سوريا صدّقوا «أسطورة» الربيع العربي وتعاطوا مع المسألة من زاوية أنّ ما لسوريا لسوريا وما للبنان للبنان. بالتأكيد فإنّ ما يُعلن في السياسة شيء، وأمّا النظرة الفعلية فمسألة أخرى.
ولأنّ العواصم الغربية كانت تنظر إلى نفطِ العراق ومصالحها السياسية والاقتصادية وافقَ بعض مسيحيّي لبنان على أنّ ما يجري في العراق لن يستهدف الحضور المسيحي «ولا وجود لداعش وللحركات المتطرّفة». وعندما تهجّر هؤلاء وقصدَ جزءٌ منهم لبنان لم يجدوا مَن يلتفت إليهم.
ومع الحرب في سوريا تسابقَ بعض السياسيين المسيحيين على الترويج للدعاية الغربية بأنّ الحضور المسيحي هو في منأى، وأنّ ما يحصل ثورة سياسية ولا أحد سيستهدف الحضور المسيحي:»لا شيء يحصل في معلولا ولا ضرورة للتحرّك في موضوع المطرانين المخطوفين ودعوات مشابهة».
وافقَ هؤلاء على «النزوح» السوري إلى لبنان والذي يُخفي في طيّاته تغييرات ديموغرافية تطاوِل لبنان وسوريا مستقبلاً وفق سياسة «ترانسفير» على وقع التطوّرات الحربية، فيما البراءة هي في تصديق الوعود الغربية بأنّ المسألة إنسانية وأن الامم المتحدة ستجد حلّاً قريباً وسريعاً للموضوع.
المشكلة هي أنّ «المسحورين» بإنسانية الغرب يرفضون التصديق أنّ لهذا الغرب مصالح ومصالح فقط. وحدَه الفاتيكان لديه هذا الالتزام «الأخلاقي» مع فارق أنّ قدرة تأثيره تبقى محدودة لدى العواصم الكبرى. لذلك، مثلاً، وقف الفاتيكان موقف المعارض للحرب على العراق وللحرب الدائرة في سوريا، وذلك أنّه إضافةً إلى المبدأ المسيحي الرافض كلّ أنواع العنف وأشكاله، فإنّه يدرك أنّ الحضور المسيحي سيكون ضحيّة الحروب والثورات في الدرجة الأولى.
لكنّ العارفين يؤكّدون أنّ الكرسي الرسولي، والذي يراقب بعناية التغييرات الجَذرية الطارئة على الخريطة الديموغرافية في الشرق الأوسط، كثّفَ من اتّصالاته بعيداً من الأضواء مع الإدارة الاميركية لحماية ما تبقّى من حضور مسيحي في سوريا، وفي لبنان خصوصاً، بحيث لا تطيح التطوّرات العنيفة الجارية آخرَ ما تبقّى من هذا الحضور في الشرق.
ويعي الفاتيكان جيّداً لغياب التخطيط السياسي الواعي لدى الطبقة السياسية المسيحية والتي تبدو قصيرة النظر وأنانية في طريقة مقاربتِها التطوّرات الكبرى الحاصلة، والاستحقاقُ الرئاسيّ خير مثال على ذلك. فمثلاً بدل التعاطي مع الموقف الأخير لرئيس تكتّل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون والذي ورد فيه بأنّه غير مهتمّ باسمِ الرئيس المقبل، بل بالإصلاحات التي طرحَها، وهو ما يحمل ضمناً دعوةً إلى التفاوض حول هذا الموضوع بعيداً من «عقدة» هويّة الرئيس، بقيَت الردود في إطار السجال الداخلي ومن باب تسجيل النقاط وتحسين الأوضاع في الشارع.
يقال إنّ من لا يتّعظ من ماضيه لا مستقبلَ له… مع الأمل أن يكون لبنان استثناءً لهذه القاعدة.