IMLebanon

المسيحيون بين التسلح والتغرّب والتقسيم… من ينتخبون؟

كلام في السياسة | 

قبل أيام، استخدم أحد السياسيين ـــ من الذين يفكرون، أي من هذا الجنس النادر المهدد بالانقراض ـــ عبارة «الاعتلال السني»، لتوصيف بعض من واقع الحال في لبنان والمنطقة وبعض العالم. عبارة تدفعك أناقتها إلى قلب اتجاهها وعكسها واستدخالها ذاتياً، بحيث تسأل: وماذا عن الاعتلال المسيحي الأخطر ربما، أقله لبنانياً؟

صحيح أن كل البيئات اللبنانية مأزومة. كلها معتلة، حتى في علل وجودها، وفي علة وجودها معاً، وفي علة وجود الوطن. في الشارع، وفي الوسط الشبابي خصوصاً، ومن كل الجماعات اللبنانية، تسمع هواجس جدية دقيقة وعميقة. تجعلك تتساءل: كيف لأصحاب معاناة إنسانية كهذه، أن ينتجوا طبقات سياسية تافهة وسطحية كتلك؟ أو كيف لمن تُختزل كل ثقافتهم السياسية والعامة، بعدد «لايكات» مشتراة على صورة مجملة في مجتمع «الفسابكة»، أن يمثلوا شاباً واحداً من مستبطني تلك الهواجس الوجودية الجدية؟ هل هي سكيزوفيرنيا الناس أينما كان؟ أم هو النظام السياسي المقفل والموصد على أي تغيير، رغم نفقه ونفاقه وتكلسه؟ أم هو عامل المال السياسي الذي عقم كل فكر في الحياة السياسية اللبنانية؟!

في ضوء التساؤلات تلك، تدفعك مفردة «الاعتلال» إلى البحث في الذات المسيحية، وإن باقتضاب، وإن بمجرد سرد أمثلة ونماذج. قبل أيام، كان مسؤولو أحد الأحزاب المسيحية الحليفة للسنية السياسية في اجتماع مع رئيسهم، وكان الأخير يكرر على أدمغتهم نظرية أن «داعش» فزاعة فارسية ـــ أسدية جديدة. «راجح» حزبللاهي _ عوني جديد، يخدم الحبكة المسرحية نفسها، ضمن ثنائية الحرامي الظريف والمختار الساذج. طلب أحد حزبييه البقاعيين الكلام، ليعلن رفضه نظرية رئيسه برمتها. بكل بساطة، قال له ولرفاقه، نحن رأينا «داعش» في محاذاة بيوتنا وقرانا. وقد قررنا حمل السلاح مع أبناء بلداتنا وجوارها، من كل الاتجاهات السياسية والمذهبية، كي لا نذبح على أرضنا… إنه نموذج أول من نماذج الاعتلال المسيحي الخطير.

حلقات السهر الفاخر متقلصة هذه الأيام، يتجمع روادها مثل آخر فسحات الماء في صحراء مجدبة. هناك ترى مجتمعاً صغيراً مغلقاً لا يشبه ما حوله. كأنه مُسقط من كوكب آخر على آخر أحياء «الموندانيتي» في الوطن المدقع. سيدات وجواهر وأموال وأثرياء وسيارات ورقص… وكلام عن «معه حق لوران فابيوس. لماذا لا يرحل مسيحيو العراق إلى فرنسا؟! أليس أفضل لهم من ذلك الجحيم الذي باتوا فيه؟!». عبارة تشي بموقف لبناني أكثر مما هو عراقي. ثمة «مجتمع» فرنسي أو غربي خاص، يعيش في قلب الجماعة المسيحية في لبنان، أو يعيش في لبنان، كمكان لا غير، كمجرد «موقع» لكبسة «تشيك إن» (check in) أو «آد إي لوكايشن» (Add a location)، على حسابات الفسابكة أنفسهم، فيما الحسابات المصرفية غرباً، والحسابات الحياتية المستقبلية هناك أيضاً، مع الجنسيات المكتسبة منذ عقود، أباً عن جد، ولو كانا من أبطال الاستقلال. ثمة «مجتمع» من المسيحيين يعيشون في لبنان على رؤوس أقدامهم وحسب. كما برؤوس أقدامهم الراقصة في تلك السهرات الأخيرة في آخر زوايا لبنانهم المتغرب. جاهزون أبداً للتسلل من كذبة الوطن، كما من نهاية سهرة أو بداية واحدة فاشلة. متأهبون للسفر، لهجرة نهائية، لعودة إلى مصادر وحي لبنانهم الذي كان، على ضفاف «الشان» وبعيداً عن هموم بيروت وهواجس مشروع أفلس ورئيس ـــ سنديك تفليسة. أما المفارقة المضحكة، أن بين هؤلاء المتغربين غالبية ساحقة من الطبقة السياسية الحاكمة في زمن المارونية السياسية، أبناء رؤساء ووزراء ونواب وبيوتات سياسية كاملة. طريف أن يتم إحصاؤهم: من منهم هنا ومن منهم هناك ومن هنا ـــ هناك، يعيش في حقيبة السفر وهويته «بوردينغ باس»؟!… نموذج ثان لاعتلال ثابت.

في أوساط بعض المسيحيين المعنيين حديثاً بالشأنين السياسي والعام، إعادة قراءة ونظرة استقصائية إلى خريطة لبنان المتفجرة والملتهبة هذه الأيام. يقولون: هل هي مصادفة أن كل المناطق المحتربة هي تلك التي لم تكن ضمن لبنان المتصرفية؟ ما هو هذا السر الغريب الذي جعل الحروب الراهنة تقع ضمن حدود «الأقضية الأربعة»؟ كأن مئة عام من تاريخ لبنان الكبير لم تغير «سوريتها»؟ أو كأن لبنان الصغير ظل خارجاً عن وعيها ووجدانها، رغم قرن ـــ يكتمل بعد أعوام ـــ من تكاذب العيش المشترك وأسطورة الميثاق وكل مفردات المعزوفة. هل هي الجغرافيا السياسية، أم الديموغرافيا السياسية، أم الجغرا ـــ ديموغرافيا الدينية، الأفعل من أي مفهوم مجتمعي آخر، في هذا الثقب الأسود من كوكب الأرض، المعمد باسم حروب الآلهة؟ ماذا لو كان روبرت دوكيه على حق، يسألون، وهم يراقبون حروب الشمال وطرابلس الشام والبقاع، وأخيراً راشيا؟ ودوكيه هو الفرنسي المنسوب إليه قوله لسيد بكركي يومها: «كنت كبيراً في لبنان الصغير، وستتحول صغيراً في لبنان الكبير». ماذا لو كان البطريرك الحويك نفسه على خطأ، يرددون. فالبطريرك في النهاية إنسان، وكل إنسان غير معصوم… اعتلال ثالث يحفر في العدم المسيحي هذه الأيام.

في بعض حلقات ما تبقى من طبقة وسطى، عاشت حلم الدولة اللبنانية وزمن غرامة «الزمور» وضبط مخالفة عبور الشارع خارج مسامير ممر المشاة، ثمة كلام عن «نريد أن نعيش وحدنا. نريد لامركزية، فدرالية، كانتوناً أو دولة لا فرق … المهم نريد أن نعيش في ظل سلطة ندفع لها ضرائبنا إرادياً، ونقف أمام شرطي سيرها باحترام، ونسدد فواتير كهربائها ومائها وماليتها وبلدياتها قبل تعاميم المطالبة. ونحترم فيها القوانين ولا نقيم العشوائيات العمرانية ولا نحتل الملك العام ولا نستبيح المشاعات ولا نجتاح البيئة ولا ولا ولا …». اعتلال رابع يقارب العنصرية المكشوفة، إذا ما كانت في ما سبق مستورة.

عوارض خطيرة، وإن كامنة أو مكتومة، لاعتلال مسيحي كارثي. يزيده اعتلالاً وخطراً كل ما يحصل في البلاد وحولها، من عرسال إلى عنكاوة. فيما لم يسمع من صوب «الشريك» إلا صوت بليغ وحيد أطلقه محمد السماك. الآخرون في غياب. والمسيحيون في غيبوبة. كل عوارضهم أمراض تعادل اعتلالهم خطورة وتفاقمه. من يغير هذا المناخ الانتحاري العدمي الكارثي المأسوي؟ هنري حلو؟ روبير غانم؟ بشارة أبي يونس، أنطوان الريف، كميل الشدياق، «غورو» المسيح الثاني جورج كيوان … واحد آخر لصق صورة ولم نحفظ اسمه من المرشحين رسمياً؟ فلننتخبه الآن وفوراً. وليتحمل من انتخبه مسؤولية أنه المنقذ، أمام الناس والتاريخ، عشية كتابة آخر تاريخ لمن تبقى من ناس. لا وقت نضيعه. في هذه المسألة البطريرك معه كل الحق!