لم يدفع المسيحيون يوماً جزيةً، بل لجأوا إلى الجبال محصِّنين مواقعهم، ولم يُجبرهم أحد على البقاء أو المغادرة، بل اعتصموا في جبال لبنان التي شابهَت شخصيّتهم مع مرور الزمن، أمّا الشواطئ الساحلية فشكّلت محطة لمرور الغزاة، ولم يسكنها يوماً المسيحيون بل تحصّنوا في الجبال، ولحقَت بهم الأقلّيات مثل الدروز، فسكنوا سويّاً فيها. لذلك لا مجال للمقارنة بين مسيحيّي الموصل ومسيحيي لبنان، فيما «داعش» يحارب اليوم في سهول نينوى والمناطق السهلية السهلة. لذلك تبقى الجغرافيا العامل الأقوى للشعوب، بالإضافة إلى الدور المهم الذي لعبه بطاركة لبنان وإيمانُ اللبنانيين وقادة الموارنة تاريخيّاً، فيما مسيحيّو الموصل لا قادة مقاومين لديهم ولا يملكون السلاح، وإذا ملكوه فليسوا مدرّبين على استعماله، وقد اتّكلوا طوال حياتهم على الجيش لحمايتهم، على عكس مسيحيّي لبنان الذين تسلّحوا وتدرّبوا وقاتلوا، ولم يدفعوا يوماً جزية.
تعالَت في الفترة الأخيرة بعض الأصوات التي تطالب مسيحيّي الموصل بخَيار دفع الجزية التي فرَضها عليهم تنظيم «داعش» للبقاء في مدينتهم، متمنّيةً عليهم الصمود في بلادهم وعدمَ المغادرة، وحضَّتهم على اختيار المقاومة التكتيكية للبقاء، وذلك عبر الاختيار بذكاء وحنكة سياسيَّين لدفعِ الجزية أسوةً بالمسيحيّين الأوائل، على حدِّ قول بعض المُطّلعين الذين اعتبروا أنّ مسيحيّي لبنان في عهد الأمويّين أجبِروا على السير على جانبَي الطريق لدى مرور المسلمين في طريقهم، ولم يمانعوا، فيما دفعوا الجزية أيضاً إلى الخلفاء الحاكمين مقابل بقائهم في أرضهم ولم يُجبَروا على المغادرة.
إلّا أنّ البعض يعتبر أنّ هذا السرد عارٍ من الصحّة، إذ إنّ المسيحيين لم يدفعوا الجزية في حياتهم، بل تحصّنوا في الجبال التي حمَتهم ومنعَت الجيوشَ العابرة عبر المناطق الساحلية في لبنان من تسلّقها لعدم خبرتها في قتال الجبال ولإلمام المسيحيّين بمواجهة تلك الجيوش في حال فكَّرت بتسلّق تلك الجبال، فكان المسيحيّون يدحرونهم من الأعالي ليسقطوا واحداً تِلوَ الآخر، ولا يتجرَّؤون على المحاولة مجدّداً.
في المقابل تؤكّد أوساط مسيحية أنّ المقاومة قد تكون مشروعةً في مختلف وجوهها للوصول إلى الهدف، فكيف بالأحرى إذا كان الهدف من دفع الجزية هو في سبيل البقاء في الارض التي وُلد فيها مسيحيّو الموصل وترعرعوا وكبروا ونموا؟
إلّا أنّ مصادر غربية رفيعة المستوى كشفَت أنّ مسيحيّي الموصل عُرض عليهم التزوّد بالأسلحة لكي يقاتلوا «داعش»، كما زُوِّد الأكراد اليوم بهذا السلاح، وهم يحاربون «داعش» بكلّ شراسة واقتناع، على عكس مسيحيّي الموصل الذين خافوا ولم يقبلوا لا بالسلاح للمقاومة ولا بدفع الجزية للبقاء في أرضهم، وذلك وفقَ تقارير حاولت من خلالها الأجهزة الغربية الدفاع عن بلادها التي اتُّهمت بتغطية «داعش» وتناميه في المنطقة، فبرَّرت تلك التقارير هذه الاتّهامات بالتأكيد أنّ بلادهم أرسلت الأسلحة إلى المسيحيّين، لكنه اتضح لهم أن مسيحيي الموصل اعتادوا الانصياع، وكانت لديهم نيّات مسبَقة بترك بلادهم واللجوء إلى بلدان أكثر أماناً تؤمّن لهم ولأبنائهم مستقبلاً مادّياً ومعنوياً مقبولاً.
دفع الجزية لا يلغي الخطر الأكبر
من جهة أخرى، تؤكّد أوساط دينية عراقية أنّ الجزية المزعومة لم تكن الحلّ الأنجح لمسيحيّي العراق الذين لم يعُد لديهم أموالٌ في الأساس لدفعها أو للاستمرار، بسبب عدم توافر فرَص العمل لهم في القطاعات التربوية والمهنية والصناعية في الموصل، وذلك مخافةً من العواقب التي قد يواجهونها في حال استخدموا الوظائف الشاغرة. فضلاً عن أنّ موضوع دفع الجزية لا يلغي الخطر المحدق في سَبي نسائهم والتنكيل بأطفالهم ونهبِ ممتلكاتهم.
رواية المسيحيين اللبنانيين والجزية
تقول مصادر دينية رفيعة المستوى إنّ هذه الرواية غير دقيقة، والقول إنّ المسيحيين الأوائل دفعوا الجزية أيام الاضطهاد للبقاء هو وصفٌ غير صحيح لا في الزمان ولا في المكان، أمّا عن أسباب تشبُّث المسيحيين بأرضهم وعدم تمكّن أيّ قوّة في الماضي من اقتلاعهم، فتؤكّد تلك الجهات الدينية أنّها بحتُ جغرافية.
مونّس: موارنة لبنان عُرفوا بتمرّدهم
في هذا السياق، يقول الأب يوسف مونّس إنّ المسيحيين لم يدفعوا جزية في حياتهم، بل لجأوا إلى الجبال واهتمّوا بها محصِّنين مواقفهم، ولم يُجبرهم أحد على البقاء أو المغادرة، بل هم اعتصموا في جبال لبنان التي شابهَت شخصيّتهم مع مرور الزمن. وتكوَّنت مواقعهم الجغرافية من 700 متر وما فوق، ولم ينزلوا قطّ إلى الشواطئ، لأنّ الجيوش العثمانية المعادية كانت تتّخذها ممرّاً لها، فيما المناطق التي تُعتبر مسيحية اليوم وتقطنها الأغلبية المسيحية، مثل البترون وجونية، فلم تكن كذلك فيما مضى، إذ سكنَها بعض العوائل المسيحية، فيما الأكثرية المسيحية لم تسكن فيها، كما أنّ منطقة جبيل لم يسكنها المسيحيون بل صعدوا إلى تنّورين وبشرّي والعاقورة وعينطورة وقرطبا وجزّين، أي إلى المناطق العالية، وتحصّنوا فيها، فلم يأتِ خلفَهم أحد. ولم يجرؤ أحد على الصعود إلى الجبال لمقاتلتهم، لأنّهم كانوا يدحرونه من الأعلى إلى الوديان، ولم تحاول تلك الجيوش الصعود الى الجبال والمغامرة مجدّداً لمقاتلة المسيحيين.
ويكشف مونّس أنّه وفي مرحلة الخلافة وليس في أيّام العثمانيين، على عكس ما يقال اليوم، كانت الجزية تُدفَع إلى المسيحيين وليس العكس، لأنّهم كانوا يطاردون الجيش مع الخليفة «للإعفاء عن جيوشهم»، بالإضافة إلى أنّ موارنة لبنان عُرفوا بتمرّدهم، فتمرَّدوا على كلّ شيء، ومَن يعرف تاريخ لبنان يعلم جيّداً أنّ المسيحيين لم يدفعوا جزية في حياتهم»، مؤكّداً أنّ «المسيحيين في طرابلس لم يدفعوا يوماً الجزية، وكذلك في زحلة التي كانت مستقلّة عن سلطة الكثلكة ولم تدفع يوماً جزية».
ويضيف: «إذا نظرنا إلى الجغرافيا والتاريخ، نرى أنّ أحداً لم يجرؤ على صعود جبال لبنان لمحاربة المسيحيين، بل ذهب العلماء الموارنة الى الآستانة ليُعلّموا ويدرّبوا ويترجموا، فلا نُصدّقنّ مقولات خاطئة ونتاجر بها».
وعن الخطر في الموصل الذي سبَّبه جبنُ الجيش العراقي، يسأل مونّس: «هل من المعقول أن يهرب العسكر الذي أثبَت أنّه عسكر كرتوني ولا يدافع عن شعبه؟». ويلفت في المقابل إلى أنّ «جنودنا ذهبوا إلى عرسال وقاتلوا وناضلوا واستشهدوا وكسروا العدوّ، ومن هنا يجب عدم مقارنة أنفسنا بالآخرين»، ملاحظاً أنّ «الأكراد، وبعدما تسلّحوا، بدأوا يدافعون عن أنفسهم ويستعيدون مواقعَهم». ففي الموصل برأي مونّس «الجيش باع الموصل بما فيها ورحَل».
أمّا عن اختيارهم دفعَ الجزية، فيقول مونّس إنّه من الأفضل لمسيحيّي الموصل الاستشهاد عوَض دفع الجزية، «فالعملية عملية كرامة»، مؤكّداً أنّ «هناك تفكيراً دينياً خاطئاً وواهماً عند بعض المشايخ، ويجب تصحيح بعض الأمراض العقلية عند بعضهم، أكثر من تصحيح موقف المسيحيّين، فحقّ الدفاع عن النفس مشروع، لكنّ المواطنين وثِقوا بدولة كرتونية».
ويؤيّد مونّس مواقف البابا فرنسيس والبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي والكنسية المارونية والشعب الشرقي العظيم وموقفَ الدروز. ويشدّد على أنّه ليس خائفاً من التمرّد الداعشي، «لأنّ عناية الله ترعى هذا التاريخ، فنحن لم نبقَ حتى اليوم ليأكلنا تنظيم «داعش»، وسوف نأكل رأسَه هو وجميع المفتنين المجانين المَرضى نفسيّاً، وسنغيّر المعادلة من جذورها ونعود إلى زمن التنوير الذي هو في قلب الإسلام، وقد عرفناه مع ابن رشد والغزالي وابن خلدون، إلّا أنّ الظلاميّين الجُدد قتلوا العقل في الشرق الأوسط».
وفي السياق عينه، تؤكّد جهات دينية رفيعة المستوى أنّ المعونات الإنسانية المرسَلة من لبنان راهناً هي من أولى واجبات القيادات الروحية المسيحية والعوائل المسيحية اللبنانية القادرة، وكذلك الإعلام اللبناني الذي يعوّل عليه مسيحيّو العراق كثيراً لما له من سلطة فاعلة في إيصال الحقيقة والحضّ على المعالجة، فيما نوّهَت جهات متابعة بالدور المعنوي الكبير الذي لعبَه البطريرك الراعي بذكاء من خلال توجُّهه إلى أربيل تحديداً للوقوف على خاطر المسيحيّين هناك، وقد أظهرَ التعاضد الكبير لبطاركة الشرق الصورة الحقيقية للوجه المسيحي المتَّحد والصلب.