أيّ مقاربة للوضع السياسي للمسيحيّين من الزاوية الآنيّة الضيّقة تُبرز مدى التشرذم الذي يتخبّطون فيه، وتحديداً بعد خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005، فيما لو نجحوا في الاتفاق على الحَد الأدنى من المشاريع السياسية لكانَ اختلفَ المسار السياسي العام للبلد.
إعتادَ الموارنة منذ نشأتهم المطالبةَ بالحكم الذاتي، ليس من منطلق الانعزال والقوقعة، إنّما بهدف الحفاظ على حرّيتهم وثقافتهم وخصوصيتهم، وذلك بانتظار اللحظة المناسبة لإعادة الوصل مع الآخرين على قاعدة المساواة والديموقراطية. والتجارب التاريخية أكبر دليل، من زوال الإمارة الشهابية ونشوء القائمَّقاميتين، وصولاً إلى متصرفية جبل لبنان التي انتهت بالانتداب الفرنسي ونشوء دولة لبنان الكبير، حيث وجَد الموارنة أنفسَهم في صلب قيادة اللعبة السياسية الداخلية، فحصَلوا على المراكز القيادية في السياسة والاقتصاد والجيش بفعلِ المعطيات السياسية الجديدة وتقدُّمِهم الاجتماعي والثقافي والعلمي، وذلك بحُكم ارتباط الكنيسة المارونية بروما بشكلٍ خاص وبالغرب بشكل عام. وقد وَلّد الشعور بالانتصار، بعد الحصول على السلطة، مَيلاً إلى أحادية القرار، ولو بشكل محدود، لإدراك بعض القادة مدى تداعيات الأحادية السياسية في وطن تنَوُّعيّ. وتجدُر الإشارة إلى أنّ بعض القادة الموارنة كانوا حريصين آنذاك على الاستشارة والشراكة السياسية، ولكنّ مِثلَ هذه المساعي لم تلقَ تجاوباً من القواعد الشعبية المسيحية، كما كانت الحال مع الرئيس فؤاد شهاب.
ومع انزلاق لبنان إلى الحرب الأهلية تعمَّقت المخاوف المسيحية على المستقبل والمصير، ودلّت هذه الحرب بالنسبة إلى فئةٍ واسعة منهم إلى أنّ مخاوفهم كانت في محَلها. وفي الوقت الذي استغلّ فيه بعض المسيحيين التنازلات التي أقدَم عليها البعض الآخر في الطائف، أظهرَت التجربة أنّ ما خسرَه المسيحيّون من صلاحيات عوّضوه بممارستهم العملَ السياسي بشكل طبيعي في بلد متنوّع لا يتحمّل طغيانَ فئة على الفئات الأخرى. ولكن، ويا للأسف، لم يُكتَب لهذه التجربة النجاح، بفعل الوصاية السورية التي شلّت الحياة السياسية. إلّا أنّ صمود المسيحيين في مواجهة الوصاية ونَسجَهم علاقاتِ ثقة وتواصل مع الطوائف الأخرى أدّى إلى بروز تحالفات وطنية، بدأت مع مصالحة الجبل في العام 2001 التي وضعَت حجر الأساس لانتفاضة الاستقلال التي أدّت إلى إخراج الجيش السوري من لبنان، عِلماً أنّ نظام الوصاية كان يضع كلّ جهدِه لمنع تقارب اللبنانيين، لأنّ تقاربهم سيؤدّي إلى رفع هيمنته عن لبنان.
ولكن بعد الخروج السوري عاد المسيحيّون إلى تمايزهم السياسي، واستعادت اللعبة السياسية حَيويتها، وفي هذا السياق برَز دور «القوات اللبنانية» التي نجحَت في فترة وجيزة وعبر وُرَش عمل داخلية بالتحوّل إلى حزب سياسي بامتياز، كما نجحَت في إثبات تمسّكها بالشراكة الوطنية وتعَلّقها بتحالف 14 آذار. ففي شباط من العام 2006 ضبَطت القوات عصَبية الشارع المسيحي عند تحوُّل المظاهرات أمام السفارة الدنمركية إلى مظاهرات عنفية، ردّاً على الرسوم المسيئة التي طاوَلت النبي محمد. وفي العام 2007 شكّلت زيارة الدكتور سمير جعجع إلى مقرّ رئاسة الوزراء إبّان أحداث 7 أيّار تأكيداً على وحدة المصير بين مكوّنات الحركة الاستقلالية. وفي العام 2009 نجحَت «القوات اللبنانية» في تجاوز كلّ العقبات المتصلة بلوائح 14 آذار الانتخابية بتنازلها لمصلحة 14 آذار، كما استطاعت عبر رفض المشروع الأرثوذكسي كسبَ ثقةٍ وطنية.
ولعلّ القفزة النوعية التي حقّقتها «القوات» تمثّلت بترشّح رئيسها إلى رئاسة الجمهورية، حيث قاد انتخابات رئاسية بنجاح استثنائي، وضَع فيها أخصامَه في موقع المتّهَم والخاسر، الأمر الذي قادَهم إلى ردود فعل غرائزية وطائفية أفقدَتهم ما كان قد تبقّى من رصيدهم المسيحي الوطني، وبالتالي أصبح يمكن القول إنّ ما قبل الترشّح، بالنسبة إلى القوات، غير ما بعده.
ويبقى أنّ أيّ متابعٍ لمسار «القوات اللبنانية» منذ العام 2005 إلى اليوم لا بدّ من أن يلاحظ تَبدِيتها للخيارات الوطنية السيادية على أيّ مواقف شعبوية، وهذه الخيارات ستظلّ وحدَها الكفيلة بإعادة المسيحيين إلى طليعة المشهدية السياسية، لأنّ الصلاحيات لا تُمارَس من مواقع فئوية، إنّما من خلال بناء الثقة مع الآخرين على قاعدة إعطاء الأوّلية للقضايا الوطنية…