المسألة أكبر من وصول زعيم مسيحي قويّ إلى سدّة رئاسة الجمهورية. إنّها قضيّة وجود شعب بكامله والحفاظ على دوره الذي تقلّص منذ العام 1988، بعدما استلم العماد ميشال عون «الشرعية» وخاضَ حروباً همَجيّة.
يعرف النواب العونيون أنّ مقاطعتَهم جلسات الانتخاب هي عين الخطأ، لكنّ رأيَهم لا يؤخَذ في الاعتبار
يسأل كلّ مسيحي لبناني عن الهاوية التي يأخذنا عون إليها، وتستغرب عوائلُ الشهداء والمُصابين في الحرب حديثَه الدائمَ عن قيمةِ النضال الذي يشبه «الخمس نجوم» في باريس، «ففيما عانينا الوجع والظلم والقهر والتنكيل، كان يتلذّذ بمال الشعب الذي فاض عليه في قصر الشعب».
يدفع المسيحيون مجدّداً ثمنَ أحلام عون الرئاسيّة، ويسألون: بأيّ حقّ يقتل دورَنا وينهي وجودَنا الفاعل؟ المسيحيّون ناقمون على تكتّله النيابي الفضفاض الذي يدَّعي الحفاظ على حقوق المسيحيين، لكنّه في المقابل يُفرغ الرئاسة من مارونيتها، ويجعلها عرضةً للتهميش، وكأنّها «إجر كرسي» وليست كرسيّاً صَنَعت مجد لبنان، ووضعَت أسُسَ بناء الدولة.
يتناول النواب العونيّون في اجتماعاتهم مسألة انتخاب رئيس الجمهورية، ويعرفون أنّ مقاطعتَهم جلسات الانتخاب هي عين الخطأ وخيانة للأمانة والوظيفة، كما قال البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، لكنّ رأيَهم لا يؤخَذ في الاعتبار، لأنّ عون يُمنّنهم بأنّه هو مَن صنَعهم نوّاباً. وإذا قارنّا همسَ النواب العونيّين في الخفاء مع تصرّفاتهم العلنية، نرى أنّهم مُحقّون، لأنّ الجنرال يُمنِّن الشعب والوطن بنضاله وتضحياته، ويريد قبضَ الثمن، وهو رئاسة الجمهورية.
يؤكّد معظم الأفرقاء الداخليّين، وعلى رأسهم تيار «المستقبل» و»اللقاء الديموقراطي» و»القوات اللبنانية» أنّهم لا يريدون عون رئيساً، فيما لا تصبّ العوامل الإقليمية والدولية لمصلحته. ووسط هذه الأجواء، يُصرّ الجنرال على استكمال معركته «العبثيّة» ضارباً عرض الحائط رغبات المسيحيين وبطريركيتهم، واستقرار الشعب اللبناني الذي يستغرب كيف أنّ شخصاً يدّعي التفكير وطنياً، يرهن البلد، فيما سِجلّه حافلٌ على هذا الصعيد، حيث عرقلَ تأليف الحكومة أشهراً لتوزير صهره، وزير الخارجية جبران باسيل، وهو اليوم يُبقي البلد بلا رئيس تحقيقاً لطموحاته الشخصية.
وحدَه الرئيس السوري بشّار الأسد يدعم ترشيحه. فالنظام السوري حليفه، وقد عقدَ معه صفقةً تنازَل فيها عون عن كلّ مطالبه السيادية، وعن ملفّ المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، وحاولَ شَقَّ الموارنة من خلال نقلِ مرجعيتهم إلى «براد»، عندما كان على خلاف مع البطريركية المارونية آنذاك، لكنّه فشل. وذلك في وقت لا يتحمّل اللبنانيون رئيساً يقول «شكراً سوريا»، أو يطلب منهم الاعتذار من النظام السوري، ولا يتحمّلون رئيساً حليفاً للنظام الذي نكَّلَ باللبنانيين كما ينكّل بالسوريين حالياً.
لا حدود لطمع عون في الدولة، وإذا كان هاجسه الأكبر تأمين مستقبل صهره باسيل، فإنّ الجميع يتخوّفون من محاولاته بَلعَ الدولة إذا أصبح رئيساً، على رغم أنّ هذا الأمر مستحيل. فقد حُفِرت في ذاكرة الشعب الصفقات والسمسرات التي قام بها وزراؤه في حكومة اللون الواحد، إضافةً إلى سوء إدارتهم ملفّات العمل والاتصالات والطاقة، وممارسة الكيدية السياسية في حقّ الموظفين الذين لا ينتمون إلى خطّهم السياسي.
وقضية الجامعة اللبنانية أعطت نموذجاً عن العقلية العونية في «الجشَع» السلطوي، وزرعِ المحازبين في أرجاء الجامعة بلا إعطاء قيمة للكفاءة والنزاهة، مع التأكيد أنّ كلّ هذه المحاولات ستبوء بالفشل.
السلطة تُعمي عقلَ الإنسان، والجموح نحوَها يضرب البلد ومؤسّساته، فعون صمَّ أذنيه عن الأصوات المنادية للتوافق الرئاسي، محاولاً تطبيق المنطق العسكري «أنا أو لا أحد»، باحثاً عن أعذار تُبرِّر خطيئته الكبرى، على رغم معرفته بأنّ اللبنانيين لن يكرّروا خطأ 1988. فرهانُه على تغيير إقليمي في غير محلّه، لأنّه يراهن على انتصار الأسد، فتخيّلوا أيّ نوع من الرؤساء سيأتي؟