IMLebanon

المشهد يكرّر.. حزنه

 

لم يعد العزاء في قلب الضاحية الجنوبية شأناً عائلياً فقط، بل أصبح أو تحوّل إلى واجب جماعي يشارك فيه البعيد والقريب. الناس في هذه البقعة يزفّ بعضهم البعض أخبار الموت القادم من خارج الحدود ويتناقلون في ما بينهم قصصاً وحكايات عن الحرب الدائرة «هناك» بدل استعمالهم كلمة سوريا حتى أصبحت لديهم قناعة راسخة تقول إنّ المعركة أبدية لن تنتهي إلا مع سقوط آخر قطرة دم.

بالأمس احتشد عدد كبير من المواطنين بالقرب من مكان التفجير الانتحاري الذي وقع منذ يومين عند المدخل الشمالي للضاحية الجنوبية ينتظرون مرور موكب تشييع الشهيد عبد الكريم حدرج الذي أصبح رمزاً للتضحية على غرار ما يحصل عادة بعد كل تفجير بحيث يُصبح هناك نجوم للواقعة تماماً مثلما كان كل من الشهداء ملاك زهوي، علي خضرا ومحمد الشعار وغيرهم الكثيرين نجوماً أضاؤوا بشهادتهم سماء وطن مُثقل بالهموم وغارق في أزماته المتشعّبة. بعضهم كان يُحلل ويُراقب الطريق الذي يمكن أن يكون الانتحاري قد سلكه والبعض الآخر كان يوجّه اتهاماته يمنة ويسرة، لكن بكل تأكيد هناك بعض لم يُلمح بينهم إمّا بسبب خوفه أو بسبب مغادرته المنطقة.

وسط أحاديث الناس وزحمات السير الخانقة، إذ برجل ثمانيني يخرق المشهد المرتسم وقد بدا عليه واضحاً وقار السنين رغم ثيابه الرمادية البالية. كان يسير ببطء شديد مُخترقاً الحشود وحواجز الجيش اللبناني يُمسك بيده كيساً أسود فارغاً يُتمتم بضع كلمات غير مفهومة وكأنه يشكو من الزحمة او يُبدي ملله من عمليات القتل والتفجيرات المستمرة، قابله في الجهة الأخرى مرور نعش الشهيد حدرج الأبيض محمولاً على أكتاف ثلّة من رفاقه في الأمن العام ومغطّى بالعلم اللبناني عند تقاطع روضة الشهيدين وسط صيحات من الغضب، فيما غابت الأعلام الحزبية تماماً عن الصورة قيل إنّها رغبة والد الشهيد فضل حدرج.

لقد بدت الصورة في الضاحية الجنوبية أمس أكثر وضوحاً، محال تجارية ومطاعم فارغة من روّادها والشوارع خلت من الناس بنسبة كبيرة عن الأيام الماضية. وحده الخوف على المصير المجهول بات هاجس الناس وشغلهم الشاغل. مشاهد النزوح عادت لتتصدّر واجهة الأحداث جنوباً أو بقاعاً لا فرق فالمهم النجاة بالأرواح وإبعاد الأطفال. بعض النازحين أقرّوا بخوفهم على مستقبل عائلاتهم وأطفالهم وبعضهم الآخر رأى في قراءة الفاتحة على أضرحة «شهدائهم» في القرية وسيلة للتهرّب من أسئلة أصحاب لا ينظرون إلى مغادرة الأهالي إلاّ على أنّها هروب من «المواجهة».

حركات سير خفيفة تشهدها تقاطعات الغبيري، المشرفية وكنيسة مارمخايل إضافة إلى المفارق المؤدية إلى الضاحية على طول طريق المطار. هناك مَن يحاول دائماً زرع الرعب في قلوب سكان الضاحية من خلال بث أخبار متعدّدة عن «تكفيريين» أصبحوا على مسافة قريبة منهم وأن هدفهم المناطق الشيعية متناسين التفجيرات التي وقعت في مناطق أخرى والتي حصدت عشرات الأرواح. كما عاد الحديث أيضاً عن فرضية انتحاريين يمكن أن يفجّروا أنفسهم بين التجمعات أو داخل المحال التجارية وهناك مَن أعاد بناء الدشم الاسمنتية بعدما كان استغنى عنها خلال الشهرين الماضين.

أهالي الضاحية في حيرة من أمرهم يسألون عن المفر من موت يلاحقهم أو قد يكون بينهم. الكل متهم إلى أن يُثبت العكس ومع هذا يضعون أعمارهم أمانة بيد الله وحده مع سيل من الأدعية والصلوات. يبحثون عن نقطة آمنة ينطلقون منها لغد أفضل لكنهم عبثاً يحاولون فالموت يُحاصرهم من كل الجهات ودماء الضحايا تقودهم إلى التعصّب أكثر فأكثر. لحظات عصيبة وصعبة أن يشعر أحدهم أنّه مقتول لا محالة وأنّه عالق بين خيارين إمّا الرحيل أو البقاء مع تحمل نتائج الخيار الثاني وبين الخيارين ينهض الرجل الثمانيني من على الرصيف ويعود ويمسك بيده الكيس الأسود بعد أن جلس عليه طيلة فترة التشييع ثم يُقرر أن يرحل ولكن.. الى أين؟