IMLebanon

المقاومة المسيحية؛ سؤالٌ في الشرعية؟

على مدى أربعة عشر قرناً، قاوم مسيحيو المشرق ـــ وأغلبيتهم من أرومة عربية ومن إثنيات مشرقية قديمة ـــ موجات منتظمة من الإبادة والتهجير، من خلال اتباع أربعة خيارات: (1) التحوّل إلى الإسلام، (2) التحالفات القبلية، حيث ومتى كان ذلك ممكناً، (3) التحصّن بمنعزلات جبلية، (4) القبول بوضع دوني كأهل ذمّة يدفعون الجزية ويرضون بالجور، في إطار نظام وساطة سياسية تقوم بها النخب الدينية والعلمية والمهنية والمالية بين الطوائف المسيحية والسلطة الحامية.

كل الثرثرة التي تشبعت بها الرواية الرسمية لما يسمى تاريخ «التسامح»، ليس سوى تاريخ الوضع المهين لأهل الذمّة، بما في ذلك، تلك الوثيقة الممجدة المعروفة بـ«العهدة العمرية»؛ فهي ليست أكثر من اتفاقية إذعان قبلها المغلوبون مضطرين، تلافياً للذبح والتهجير.

لم يعرف مسيحيو المشرق، طوال ذلك التاريخ من الاضطهاد، وضع المواطنة ـــ ولو المنقوصة ـــ إلا في إطار الدول الوطنية الحديثة التي تنهار أو تتزعزع الآن، أمام موجة جديدة من التطرف الديني اتخذ، أخيراً، سماته الكاملة تحت راية «داعش».

منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى سبعينيات القرن العشرين، اتبع مسيحيو المشرق، أربع استراتيجيات، أولها وأهمها، الاندراج الكثيف في تأسيس الأفكار والتنظيمات القومية واليسارية، والمشاركة السياسية والمدنية والثقافية، وثانيتها، التعليم والاحتراف المهني والنشاط الاقتصادي إلخ، وثالثتها، الهجرات العائلية والفردية. أما الاستراتيجية الرابعة، فقد انفردت بها النخب المارونية اللبنانية، من التحالف مع فرنسا لتأسيس كيان تكون عصبيته الحاكمة مارونية، ثم التحالف مع المعسكر الغربي ـ الرجعي العربي ـ الإسرائيلي، في محاولة يائسة للحفاظ على سلطة الدولة في الحرب الأهلية التي انتهت بهزيمة المارونية السياسية، وتلاشي وضع الموارنة السلطوي.

التاريخ غير المشرف والمأساوي للميليشيات المارونية، كرست لدى مسيحيي المشرق، نزعة الاندماج الوطني ورفض التعبير السياسي ـــ فضلاً عن المسلح ـــ للوجود الاجتماعي المسيحي. فإذا أضفنا إلى ذلك، ثوابت النزوع المسالم والذمّي بين مسيحيي المشرق، وجدناهم ينفرون من التنظيم والتسلّح. وحتى بعد انهيار الدولة الوطنية في العراق، واندراج السنة والشيعة ـــ وقبلهم الأكراد ـــ في بناء منظمات مسلحة، لم يلجأ المسيحيون العراقيون إلى تأسيس ميليشيا، أقله للدفاع عن وجودهم وحيواتهم وأسرهم ومصالحهم، بل اختاروا الاستسلام والهجرة. ومن المدهش أن المكوّن الإيزيدي، المسالم تقليدياً، نفرت منه، أخيراً، مجموعات بدأت التدرّب على السلاح، وتأسيس ميليشيا للدفاع عن الذات، بعدما تعرضت له طائفتهم من مهابدة وتهجير على أيدي «داعش». وفي الأخبار أن شباباً إيزيديين بدأوا فعلاً عمليات انتقامية ضد الدواعش. أما المسيحيون العراقيون، فما زالوا بعيدين عن خيار كهذا.

ليست «داعش» حدثاً عابراً، وقد تترسخ في دولة معترف بها في حدود بادية الشام. «داعش» موجة متعددة الأشكال والألوان، ومتجذرة في قلب المجتمعات، وتتلقى الدعم الحثيث، العلني والضمني، من الخليج والولايات المتحدة والغرب وإسرائيل. وقد أيقظت هذه الموجة الهمجية، بين مسيحيي المشرق، خصوصاً بعد ما حدث في سوريا والعراق، ذكريات تاريخية مؤلمة، وشعوراً بفشل استراتيجية الاندماج والمشاركة، ومخاوف من مصير مجهول. وهذه كلها تدفع نحو الانكفاء والهجرة.

لا شيء يطمئن المهدّدين في حياتهم وأعراضهم وممتلكاتهم ونمط عيشهم، لا الدول الوطنية التي يرونها تنهار أو تتمزق أو تضعف، ولا المجتمعات التي ظهر من بين صفوفها دواعش فعليون أو قادمون، ولا الكلام المعسول للنخب التي واصلت الصمت إزاء مهابدة المسيحيين وسواهم من «الأقليات» في مشرق يتعرّض لأبشع جرائم التاريخ ضد البشر المختلفين.

التهديد نفسه مسلط على رؤوس الشيعة والعلويين والدروز إلخ؛ بيد أن الشيعة في لبنان والعراق، مجتمعون في المكان ومنظمون ومسلحون، كذلك العلويون والدروز، وعما قريب سنرى السلاح في أيدي الإيزيديين. بالمقابل، نرى أن نزوع مسيحيي المشرق إلى الاندماج، فرّقهم، غالباً، من حيث السكن، بينما نزوعهم المسالم، وتمتعهم، عموماً، بوضع الطبقة الوسطى، يجعل منهم لقمة سائغة للوحوش الآدمية من الدواعش وأشباههم.

لا يستطيع مسيحيو المشرق، بعد عقود من المواطنة، العودة إلى الوضع المهين اللاإنساني لأهل الذمّة، ولا يمكنهم تجاوز خيار الهجرة المؤلم، إلا بالاطمئنان إلى قواهم الذاتية؛ بقاء المسيحي المشرقي على أرضه أصبح مرهوناً بامتشاقه السلاح! وهذه، بحدّ ذاتها، كارثة بالنسبة إلى المجتمعات المشرقية، أن تتحوّل أكثر فئاتها دينامية واندماجاً، إلى تقليد المكونات الأخرى، بالانتظام والتسلّح.

شرعية المقاومة المسيحية المسلحة، تنبع من الحق في استمرار الوجود في أرض الأجداد، والحياة والحرية والكرامة؛ فلا يمكنك أن تسأل عن شرعية الكلاشنكوف بين يدي رجل يدافع عن بيته وعرضه وأبنائه؛ غير أن على المسيحي المشرقي مسؤولية تاريخية نحو مجتمعه، مرتبطة بتراثه التنويري والعلماني والقومي والتحرري، وهو ما يفرض عليه أن يبدع صيغة لاندراج المقاومة المسيحية في صيغ لا تخرج به عن تراثه ذاك.