IMLebanon

النصاب السياسي يكتمل: تحصين الأمن وعرسال

النصاب السياسي يكتمل: تحصين الأمن وعرسال

الحريري في بيروت: اعتدال وتسويات

كتب المحرر السياسي:

لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم السابع والسبعين على التوالي.

سعد الحريري في بيروت، من بوابة عرسال والقرار السعودي المغطى أميركيا بتقديم مليار دولار للأمن اللبناني في مواجهة الإرهاب.

يعود زعيم «المستقبل» إلى بلده وأهله، بعد ثلاث سنوات ونيف من غربة سياسية قسرية، أرادها على طريقته وسيلة حماية، لكنه، وعلى خطى والده الشهيد رفيق الحريري، قرر أن يغامر «لأن لا أحد أكبر من بلده»، وما دام لبنان في خطر، تهون التضحيات من كل اللبنانيين بلا استثناء صونا لوحدة بلدهم وسلمهم الأهلي واعتدالهم وعيشهم المشترك.

رغبة الحريري بالعودة لطالما راودته، لا بل هو أدار محركات طائرته الخاصة على أرض مطار جدة مرتين، في لحظتي اغتيال الشهيدين وسام الحسن ومحمد شطح، لكن القرار السعودي كان حاسما ببقائه على أرض المملكة «حتى إشعار آخر».

كما أن الأميركيين، وعن طريق وزير خارجيتهم جون كيري وسفيرهم المحنك في بيروت ديفيد هيل وجهوا إليه منذ سنة حتى الآن، أكثر من نصيحة للعودة، فالتقوا بذلك مع دعوات نبيه بري ووليد جنبلاط وأصدقاء لبنانيين آخرين، بأن كل يوم تأخير في العودة يرتد سلبا على جمهوره وبلده.. والأخطر على الاستقرار الداخلي.

عاد الحريري، بقرار شجاع واستثنائي، ذلك أن الخطر بالمعنى الأمني عليه وعلى جميع قيادات لبنان، لم يتراجع بل تضاعف، في الشهور الأخيرة، وها هي المنطقة برمتها تغلي بالأحداث والوقائع الدامية، ولا أحد يسـتطيع منذ الآن رسم صورة للمشهد المتحرك من اليمن إلى مصر مرورا بسوريا والعراق ولبنان وغزة، ناهيك عن وضع دولي جديد سمته الأبرز عودة مناخات «الحرب الباردة»، من بوابة المصالح وليس العقائد، هذه المرة.

بدا الفرح غامرا بعودة الحريري. من لحظة مصافحته فجرا ثلة من حراس المطار الذي يحمل اسم والده الشهيد، إلى حراس الضريح وأهل السرايا الكبيرة.. وما إن تسرب الخبر إلى الإعلام، حتى لعلع رصاص البهجة، على بشاعته، ونزل لبنانيون ولبنانيات بشكل عفوي يزغردون في عائشة بكار والطريق الجديدة وعرسال وصيدا والشمال والبقاع والعرقوب وإقليم الخروب.

حتى أن بعض فقراء العاصمة وطرابلس ممن قد تجد بينهم من لا يملك ثمن ربطة خبز واحدة، راحوا يوزعون الحلوى في الطرق والساحات، تعبيرا عن تشوق فئة لبنانية وازنة لعودة زعيم لا يستقيم النصاب السياسي من دونه، مهما كثر «الوكلاء» أو «تجار الفراغ»!

صحيح أن سعد الحريري عاد إلى بيروت حاملا راية مكافحة الإرهاب، وموكلا بالإشراف على صرف الهبة السعودية للأمن اللبناني بكل مؤسساته وأجهزته، لكن يفترض أنه تلمس سريعا مدى تعطش تياره وجمهوره وطائفته إليه. تلمّس كم أن الفراغ على مدى سنوات كان مكلفا، بالسياسة والأمن والتنظيم.. وبإفساح المجال أمام ظواهر غريبة عن بيئة أهل السنة تحديدا. أمراء الشوارع والمحاور. نواب الفتنة. الملتحون والمعممون المتلبسون لبوس الدين بمسميات عدة، تكمل «النصرة» و«داعش» وأخواتهما. ظواهر شكل تجريد الملك عبدالله بن عبد العزيز حملة عليها في الأول من آب المنصرم، دعوة غير مباشرة لكل المنضوين تحت سقف «المملكة» أن ينخرطوا في حرب لا هوادة فيها ضد الإرهاب.

بهذا المعنى، لم تكن مسؤولية الحريري تاريخية بكل معنى الكلمة، مثلما هي اليوم، برغم كل التجارب والتحديات التي خاضها في سدة المسؤولية السياسية والوطنية منذ تسع سنوات حتى الآن. تحدي ترتيب البيت الداخلي، تيارا سياسيا وكتلة نيابية وجمهورا يتوزع كل جهات لبنان. تحدي ترتيب بيت «14 آذار». تحدي ترتيب البيت الروحي للطائفة السنية، وباكورته مشاركته غدا في انتخاب القاضي الشيخ عبد اللطيف دريان مفتيا للجمهورية اللبنانية بإجماع كل مكونات «8 و14 آذار» السنية.

محاصرة نيران الإرهاب

لم تأت عودة الحريري من فراغ. حظيت بموافقة السعوديين والأميركيين وتشجيع الأوروبيين وخصوصا الفرنسيين، وهؤلاء وغيرهم يعولون الكثير عليها، في اتجاه محاصرة النيران التي أشعلتها شرارة الإرهاب الذي أصاب عرسال وجاراتها وجردها، ومن ثم منع تجددها أو تمددها نحو مناطق أخرى، على أن يستكمل هذا الجهد العسكري والأمني المشترك، بانفتاح سياسي يعيد رسم الخريطة السياسية الداخلية، بكل مكوناتها وتوازناتها وتحالفاتها وصولا إلى وضع لبنان على سكة مرحلة سياسية انتقالية يشكل انتخاب رئيس جديد للجمهورية أبرز عناوينها، على أن يكون توافقيا وممثلا حقيقيا للوجدان المسيحي، وضامنا لعلاقات تشاركية تشجّع المسيحيين على البقاء في أرضهم، أو عبر ابتداع صيغة رئاسية انتقالية لمدة معينة لا تتجاوز نصف الولاية (ثلاث سنوات) ولا تقل عن سنة.

ومن المفيد التوكيد أن واشنطن حاولت قرع أبواب طهران، عن طريق باريس، سعيا إلى تسوية رئاسية لبنانية. وقد قال الفرنسيون للإيرانيين «إننا لا نملك مبادرة رئاسية محددة حتى الآن، لا نحن ولا الأميركيون، لكن حان الوقت لاستخلاص نتائج الحوار المفتوح بين العماد ميشال عون والرئيس الحريري، خصوصا أن الوضع اللبناني بعد أحداث عرسال، بات خطيرا جدا وأظهر بالملموس خطورة ملف النزوح السوري على بنية لبنان، وهذا الأمر يستوجب التسريع في انتخاب رئيس لبناني جديد».

أدرك الإيرانيون أن ثمة تعويلا غربيا على إمكان ممارستهم ضغطا على «حزب الله» لفرض مرشح تسوية، فبادروا إلى دعوة الفرنسيين وغيرهم إلى قرع أبواب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، وبالفعل جرت محاولات لجس نبضه من جهات لبنانية وخارجية، وكان جوابه واضحا بـ«أننا لن نخرج من العماد ميشال عون ما دام مستمراً بترشحه لرئاسة الجمهورية، وننصح الجميع بمحاورته لا أن يحاولوا إجراء أية مقايضات معنا».

وقد حاول الأميركيون بالأمس القريب جسّ نبض العماد مشال عون حول فرص الاتفاق على مرشح تسوية يكون له دور مرجّح في تسميته، فردّ عون «لقد جرّبت أن أكون صانع الرؤساء، ولن أعود إلى هذا الخيار ثانية».

تشتمل المرحلة الانتقالية أيضا على تمديد ولاية مجلس النواب تقنيا لمدة سنة قابلة للتجديد، وفق الصيغة التي طرحها النائب وليد جنبلاط على الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله، وهي صيغة تحظى بموافقة أغلبية نيابية، برغم المزايدات السياسية بعنوان رفض التمديد والإصرار على انتخاب رئيس لن تتبلور صورته قبل إنجاز التفاهمات الكبرى في المنطقة.

وإذا كانت عودة الحريري قد ساهمت في تنفيس الاحتقان الداخلي، فإن حركة وليد جنبلاط بالشراكة الكاملة مع بري، يمكن أن تؤدي إلى إعادة فتح بعض الأبواب، إلا إذا كان السعوديون ليسوا في وارد تقديم ما يسمونها «تنازلات» في هذه المرحلة الانتقالية، ما يعني أن الحوار بين «حزب الله» و«المستقبل» سيقتصر على حدوده الراهنة، في انتظار إشارات جديدة من الرياض.

عاد الحريري من بوابة عرسال وعلى عاتقه مسؤولية كبيرة تتمثل في تلبية متطلبات الجيش وباقي المؤسسات الأمنية، من أجل مواجهة تحديات الإرهاب بأنواعه كافة، وهذا يقتضي العناية بأوضاع هذه المؤسسات والمنخرطين فيها، ولعل البداية من سلسلة الرتب والرواتب التي سيستفيد منها نحو مئة ألف ضابط وعسكري في كل الأسلاك العسكرية والأمنية.

عاد الحريري وصار لتياره وكتلته وشارعه مرجعية واضحة لا لبس فيها. هل انتهى دور تجار الدين والسياسة؟