يعتـبون على الآخرين وينسون أنفسهم . . . ينسون أنّهم هـمُ الذين يعطّلون النصاب الرئاسي ، لأنهم «جـنْسٌ عاطل» ينقسم على نفسه بالسيف ، إنهم خليفة «المجتمع المسيحي» ذلك التعبـير الميليشيوي الذي أُطلق على الساحة المسيحية أيام الحرب .
هذا «المجتمع المسيحي» الـمُنْـغَلق على الآخر ، إنفتح على نفسه صراعاً محموماً بعد غياب القادة الموارنة التاريخيـين ، فسيطر الصراع المادي على العقل الماروني ، الذي رضَخَ قسراً لتسمية الديك «أبا قاسم» ، وخضعَتْ الساحة المسيحية والإستحقاقات الرئاسية فيها ، لمختلف وسائل الضغط العنفي .
وللعنف أنواع وألوان وأبواب : مفتوحة ومغْلقة ، فهناك العنف الدموي الذي أوْدى بحياة داني شمعون ، وهناك العنف التهويلي الذي هجّر أمين الجميل الى ديار الأم الحنون ، وهناك العنف المظهري بواسطة القمصان السود ، كما أن الرفض السلبي المتعـنَّت هو أيضاً نوع من أنواع الصراع المشرَّع على أبواب العنف .
لقد استخدم المحافظون الموارنة الجدد فنوناً متطورة في أساليب العنف لإسقاط الإستحقاق الرئاسي سنة 1988 . . . حين كان الخيار بين مخايل الضاهر أو الفوضى ، فكانت الفوضى هي الخيار الأمثل لتحقيق الإنتصار الأمثل «للمجتمع المسيحي» .
وخيار الفوضى يصبح قراراً مسيحياً مشتركاً إذا كان هناك إستبعاد مشـترك «لِنَحْنُ» الرئاسية ، ويصبح قراراً محكوماً بالمواجهة الضارية إذا تحوّل الخيار الى «الأنا» أو «الأنت». . . وهذا كلّه ، من أجل مصلحة المجتمع المسيحي في لبنان وسائر المشرق .
بعض الخبـثاء يقولون : إذا كان الزعماء الموارنة والمرشحون الرئاسيون الأقوياء قد عطّلوا الإستحقاق الرئاسي وفضّلوا عليه الفوضى سنة 1988 . . فإنّ هذا الإستحقاق لم يعرف شغوراً في عهد الوصاية حين كان هؤلاء الزعماء بين السجن والمنفى . . . ووفق هذه المعادلة يُـطرَح السؤال :
هل يجب أن نستعيد عهد الوصاية ، وعهد السجن والمنفى لإملاء الفراغ الرئاسي . .؟ بل ، هل يـجب أن يصبح الإستحقاق اللبناني نازحاً في المنفى السوري ، فيما الإستحقاق السوري متوطّن في لبنان على يد النازحين والمنْـفيِّـين السوريـين ؟
منذ أن سقط لبنان في مأزق ذلك الفراغ الرئاسي الذي كلّل عهد أمين الجميل ، تحوّلت سدّة الرئاسة الى كرسّي هزّاز ينزلق عليه المتأرجحون ، ولا يزال خيار الفوضى بديلاً من «اللاّ أنا» يشكل مرضاً خبـيثاً ، وعندما يصبح المرض مستعصياً ، فمن الجنون التـخيُّل «أنّ سريراً من الذهب قد يساعد المريض على الشفاء» ، بحسب قول روسي . .
لقد خاب ظـنُّ المشترع الفرنسي الذي خصَّ الموارنة برئاسة الجمهورية ، على أساس أنَّ بها طمأنةً لهم وحماية من الكثرة الطاغية ، ولم يخطر ببال هذا المشترع أن يكون في رئاسة الجمهورية خطرٌ على الموارنة من الموارنة ، وخوف من طغيان أنفسهم على أنفسهم .
من الأقوال السائرة : إنـه كلما اجتمع ثلاثة إنكليز أسسوا مستعمرة ، وثلاثة إلمانيـين أعلنوا حرباً ، وثلاثة فرنسيـين إنـتخبوا برلماناً ، وثلاثة هنود بنوا معبداً ، وثلاثة إيطاليـين ألَّـفوا جوقة غناء ، وثلاثة من العرب أقامـوا سـوق عكاظ ، وثلاثة لبنانيـين تفـرَّقوا . . . اللّهم أخشى أن يكون هؤلاء اللبنانيون الثلاثة من الموارنة .