بين ربيع إسلامي منطلق وخريف عربي متهالك، لم يبق من النظام الاقليمي العربي سوى العنوان. جامعة عربية لا تَجمع سوى الفِرقة، أنظمة عربية متهالكة ودول تتفكك ومجلس تعاون منقسم، هكذا يجد نظام أصحاب السلطة والنفوذ والمال نفسه في حالة تصدّع غير مسبوق. اما قضايا الامة فليست افضل حالاً: فمن قومية عربية جامعة، وإن بالنيات، الى دولة الخلافة الاسلامية السلفية، ومن تحرير فلسطين الى الدفاع عن غزة، ومن قضايا الثورة والتحرير الى استنباط الذرائع والتبريرات لتراجع عربي مقلق على المستويات كافة.
في الواقع لم يكن النظام الاقليمي العربي فاعلاً سوى في حقبة الناصرية التي استقطب قائدها الجماهير ورفع منسوب الامل بالتغيير الثوري، في زمن بلغت فيه الحرب الباردة أقصى مداها في المنطقة. محاور السياسة العربية كانت ايضاً امتداداً للمحاور الدولية بين معسكري الشرق والغرب، خصوصاً في خمسينيات القرن المنصرم. ثم جاءت حرب اليمن، وكانت مواجهة عسكرية ساخنة بين مصر والسعودية، وأخرى باردة معسكرة بين رفاق الصف الواحد: خلاف ناصري – بعثي بعد انهيار دولة الوحدة في 1961 وصراع على السلطة داخل حزب البعث الحاكم منذ 1963 في القطرين العراقي والسوري. ولسنوات خلت، كانت فلسطين قضية العرب الاولى وشكلت عصب وحدة الموقف وهدف تحرير الارض من الاحتلال.
اخذت الاوضاع أبعاداً مصيرية بعد هزيمة 1967، وهي أيضاً هزيمة الطبقة الحاكمة باسم القومية والتحرير. بعد خسارة كامل الارض، استعاد الفلسطينيون المبادرة فأطلقوا الكفاح المسلح، كما اجتمع العرب حول لاءات ثلاث في مؤتمر القمة في الخرطوم حيث تمّت المصالحة المصرية السعودية. الا انها مصالحة جمعتها النكسة وفرّقتها انجازات حرب 1973. ولولا لبنان الساحة، لما استمر الكفاح المسلح لاسيما بعد مواجهات الاردن بين الدولة والثورة وحرب 1973. هكذا اجتمع العرب، انظمة وجماهير، على وقع الثورة والتحرير في لبنان ومن لبنان، حيث الحريات السياسية متاحة والدولة ضعيفة والمجتمع منقسم ومفتوح.
لكن سرعان ما تبدّل المشهد الإقليمي بعد اتفاقية كمب ديفيد التي أتاحت لإسرائيل امكانية القضاء على آخر معاقل التحدي الاستراتيجي، السياسي والعسكري، الذي شكلته منظمة التحرير الفلسطينية، الفاعلة سياسياً خارج لبنان وعسكرياً داخله. هكذا كانت الاهداف الاستراتيجية، بعد خروج مصر من النزاع العربي – الاسرائيلي، للاجتياح الاسرائيلي الواسع للبنان في 1982 بعد الاجتياح الاول في 1978. وكما هي العادة، استعملت اسرائيل، مدعومة بمناخ دولي مؤات، اميركي تحديداً، اساليب القوة المفرطة والعنف اللامحدود والحصار المدمر لإخراج منظمة التحرير وقادتها ومقاتليها من بيروت. ومن تجليات الدعم العربي في تلك المرحلة نصيحة معمر القذافي لياسر عرفات بالاستشهاد على ارض المعركة. ولم يستقبل عرفات والقادة الفلسطينيون سوى تونس، البعيدة كل البعد، جغرافياً وسياسياً، عن فلسطين وذلك قبل حرب 1967 وبعدها. وكانت الجامعة العربية قد سبقت المنظمة الى تونس حيث انتقل مقرّها من القاهرة بعد اتفاقية كمب ديفيد.
في ثمانينيات القرن المنصرم، وبعد أن بات النزاع العربي – الإسرائيلي في المنفى القسري، انتقلت محاور النزاع الإقليمي شرقاً بعد سقوط نظام الشاه في ايران. أطلّت إيران الإسلامية على الساحة الاقليمية بمقولة تصدير الثورة وتبنّت قضايا العالم العربي في الصمود والتصدي والتحرير. هذا التحول المحوري ساهم في قيام مجلس التعاون الخليجي، بدعم اميركي، لاحتواء النفوذ الايراني المتزايد. وجاءت حرب الثمانية اعوام باهظة الكلفة بين العراق وايران، تَبِعها في 1990 اجتياح الجيش العراقي للكويت والغاء الدولة من الجغرافيا والتاريخ وضمّها ولاية ادارية الى «العراق الكبير». ولم ينسَ صدام حسين تحرير فلسطين عبر استهداف تل ابيب بصواريخ السكود، مدعوماً من ابو عمار الذي أيّد صدام في اجتياحه الكويت. مشهد سوريالي قل نظيره، لم ينقذه سوى انتفاضة الحجارة في فلسطين والحرب الدولية – الإقليمية لإعادة الكويت الى اهلها، ما أعطى زخماً سياسياً كبيراً لإطلاق مؤتمر السلام في مدريد في تشرين الاول 1991.
الحرب الثالثة في العراق بدأت في 2003 ولم تنته مفاعيلها الى اليوم. الغزو الاميركي للعراق أعاد خلط اوراق نزاعات المنطقة كلها، القديم والجديد. ولقد سجلت السياسة الأميركية في عهد جورج بوش الابن أعلى درجات التخبّط منذ حرب فيتنام. تمت إزاحة نظام صدام عسكرياً بسرعة فائقة وغَرِق العراق في مستنقع الاقتتال والدمار. سقط النظام الحاكم ومعه الدولة ومؤسساتها، ولم يُبنَ نظام بديل قابل للحياة. انتهت حرب العراق العسكرية بانسحاب الجيش الاميركي وبمعادلة سياسية داخلية لمصلحة إيران وواقع استراتيجي اقليمي جديد، المستفيد الاول منه اسرائيل. وجاء الربيع العربي في السنوات الاخيرة ليقضي على ما كان قائماً من توازنات داخل النظام الاقليمي العربي، لاسيما مع الحرب السورية المتواصلة التي تخطت تداعياتها حسابات الأطراف جميعها.
ومن هذا الفراغ بالذات برزت ادوار دول نافذة ومؤثرة في النظام الاقليمي، وتحديداً ايران وتركيا. لم تخف إيران يوماً سياساتها الطموحة، عربياً واسلامياُ، اما تركيا فكان دخولها الى المنطقة ناعماً عبر بوابة الوساطة بين سوريا واسرائيل، وتحول صاخباً، خصوصاً بعد اندلاع الحرب في سوريا. سياسة ايران الخارجية ركيزتها اسلامية ولا تزال، بينما تركيا قدمت نفسها نموذجاً علمانياً للعالم العربي والاسلامي، لكن سرعان ما اعتمدت سياسة متشددة وداعمة للاخوان المسلمين في مصر وسوريا. فمن «صفر مشاكل» الى مشاكل بالجملة، سقط قناع الحياد والعلمانية لحزب العدالة والتنمية في العالم العربي وفي تركيا نفسها. هكذا انتقلت المبادرة في النظام الإقليمي العربي الى ايران وتركيا، بالتكافل والتضامن مع الشرخ المذهبي المتفاقم. ولم ينجُ مجلس التعاون الخليجي، وهو الاكثر تجانساً وتماسكاً بالمقارنة مع تجمعات اقليمية اخرى، من الشلل والانقسام. وسرعان ما ملأ الفراغ – الذي سّببه سقوط الدولة وتشرذمها في العراق وسوريا وأزمات مصر وتعثر النظام الاقليمي العربي – الدولة الاسلامية الداعشية والحركات الجهادية المتطرفة.
اختلال التوازنات في المشرق العربي ومصر، وايضاً في الخليج العربي في زمن المفاوضات الاميركية – الايرانية حول الملف النووي يشكل حالة تراجع لم يشهد مثيلاً لها العالم العربي من قبل. ويزيد في بؤسها أنها حالة تناسب الجميع وإن اختلفت الدوافع والاسباب. فبين تركيا الاسلامية وايران النووية واسرائيل التوسعية وداعش التكفيرية، فقد العرب التوازن وغاب دورهم الوازن في سياسات ومواقف لم يعد يُحسب لها حساب.