كيف آلت الحرب السورية إلى هلال عسكري يحجب “الكعكة” اللبنانية المتعدّدة الألوان عن بطن الصحراء الجهادية السلفية الشاسعة؟ وما هي النتائج السياسية لهذا الوضع؟
في رؤية جغرافية عسكرية للمنطقة بعد التحوّلات العراقية الأخيرة، باتت الخطوط العسكرية التي يسيطر عليها النظام السوري من شمال اللاذقية وشرقها مروراً بطرطوس وريفها فحمص وسلسلة جبال القلمون حتى دمشق و نقطة متقدمة في جنوب دمشق، هي الحاجز الأقوى الذي أصبح على التيارات السلفية الجهادية المتشددة أن تخترقه لكي تتمكن من الوصول (عسكرياً لا مخابراتياً) إلى الأراضي اللبنانية.
هذه مفارقة هائلة وصلت إليها حروب المنطقة من بغداد إلى بيروت. أعرف أنه من الصعب على كثيرين الاعتراف بها فكيف القبول بها وهي مفارقة أن الاستقرار اللبناني حاليا، من حيث هو مهدّدٌ من السلفيّين الجهاديين، مرتبطٌ بوجود خط اللاذقية-دمشق الذي أحكم النظام السوري قبضته عليه. فمع سقوط المنطقة الشمالية والوسطى الغربية في العراق في يد التحالف المعلن وغير المعلن الذي تقوده “داعش” وما يعني ذلك من تقطّعِ الخط الصحراوي الفاصل بين بغداد ودير الزور، صارت المناطق الساحلية والجبلية والصحراوية المشار إليها التي يسيطر عليها الجيش السوري، ومعها حماه وبعض ريفها وإدلب وأجزاء من حلب وريفها، هي الحاجب العسكري المحصّن الذي يصادف أنه يلتف عمليا على كل الحدود اللبنانية مع سوريا. حاجب-حاجز يتجاوز الأربعماية كيلومتر وإن كان “يرتخي” أو يضعف فقط في بعض الشريط الجنوبي المحاذي لامتدادات جبل الشيخ في أقصى الجنوب السوري.
غرباً يأتي الخط الثاني الموازي وهو الخط اللبناني الذي يقيمه الجيش اللبناني من عكار شرقا إلى البقاع جنوبا، ويشاركه “حزب الله” بقاعياً كخط مساعد في لجم تسلل التيارات المتشددة.
من الضروري ملاحظة أن النظام السوري صاحب مصلحة في الأزمة الطاحنة التي تصيب سوريا في أن لا “يلعب” بالداخل اللبناني مع القوى السلفية، بمعنى استخدامها، كما فعل في مراحل سابقة في العراق (بعد 2003) لأن لبنان حديقته الخلفية عسكرياً واللعب بذلك يعني انكشاف ظهره وظهر حلفائه “العضويين” اللبنانيين. وهذا الشريط ( اللاذقية-دمشق) بما يضمّه من مدن وطوائف وطبقات واقتصاد (باستثناء النفط) وثقافة هو الأهم تاريخيا في الكيان السوري في السياسة والأمن بل في تشكّل الدولة السورية بعد 1920 على خط دمشق- حلب.
كيف يمكن النظر سياسياً إلى هذا الشريط العسكري؟
الانقسام المستمر في لبنان منذ العام 2005 انعكاساً للصراع الإقليمي وفقدان التغطية الغربية للنظام السوري لا يزال يحول دون تبلور خط اللاذقيّة – دمشق العسكري إلى خط سياسي يجمع مجددا النظام السوري مع المفترض أنهم متضرّرون من الهجوم العسكري الجهادي في المنطقة.
أسباب عديدة لعدم التبلور- الرسمي هذا:
1 – عدم اتضاح مدى جدية التعاون الأميركي-الإيراني ضد المفترٓض أنه عدو مشترك للجهتين وهو التيار التكفيري.
2 – استمرار الصراع السعودي الإيراني على صورة المنطقة السياسية بما فيها لبنان وسوريا.
3 – استمرار الرهان التركي على تغيير الوضع في سوريا ولو جزئياً وعلى المشاركة السياسية والاقتصادية في العراق عبر البوّابتين السنية (والكردية المزدهرة أصلاً)
4 – انعكاس هذا المناخ الإقليمي الدولي الملتبس على الانقسام اللبناني لجهة عدم حسم التيار السني المعتدل موقعه بين عاملٓيْن متضاربين حاليا: الأول هو ارتباطه الإقليمي الصراعي مقابل الارتباط الإقليمي المضاد لـ”حزب الله” والثاني هو مصلحته الأكيدة بعدم تصاعد نفوذ التيار السلفي السني.
طبعاً من حسن الطالع أن الحكومة اللبنانية الحالية هي حصيلة هدنة سعودية إيرانية وبالتالي “هدنة” بين الحزبين الحريري و”الإلهي”. الذي يحتاج إلى مراقبة هو كيف ستنعكس الوقائع الجديدة في العراق (فصل مناطق السُنّة العرب) وفي سوريا (سيطرة النظام السوري على شريط اللاذقيّة- دمشق) كيف ستنعكس على الرؤية الأمنية للبنان بين القوى الإقليميّةالمتصارعة. مع ملاحظة أن ما شهدناه في الأسابيع الأخيرة عبّر عن “هجوم” وقائي سياسي أمني لبعض الأجهزة اللبنانية ضد الجهاديّين المتطرفين. أي بخلاف الوضع في العراق، لم يكن التكفيريون فيه في الهجوم بل في “الدفاع”!!
قد يُقال أن النظام البعثي السوري طرح نفسه منذ الستينات من القرن المنصرم على أنه قوة أساسية ضد كل أنواع الأصولية السنية بدءاً من “الإخوان المسلمين” وبالتالي لا جديد في هذا الدور. نعم هناك جديد بالنسبة للبنان هو أن حصيلة ما آل إليه تطوّر الأوضاع في الحرب السورية عبر تشكّل عسكري لشريط سوري محيط بكل الحدود اللبنانية مع سوريا يجعل النظام السوري “حارس حدود” للبنان لا العكس ضد التيارات المتشدّدة ضمن تعريفها المستجد. لأن وصف التشدد الأصولي تغيّر مع الوقت ابتداءً مما افتتحته الأصولية في صيغتها الإيرانيّة عام 1979 وصولاً إلى صيغتها “الطالبانية” فصيغتها “الداعشية”.
الخلاصة هو أن المشهد الجغرافي العسكري في المنطقة حالياً هو عبارة عن هلالين عسكريّين متوازيين شمال وجنوب النهر الجنوبي الكبير و وشرق وغرب سلسلة الجبال الشرقية يحضنان ويحجبان غرباً حتى البحر الكعكة اللبنانية المتعددة الألوان ويفصلان بينها وبين بطن الحوت الصحراوي الشاسع الممتد إلى حدود بغداد.
لقد سمّى المؤرخ أرنولد توينبي على منبر الندوة اللينانية ذات يوم من أواخر الخمسينات المدن السورية دمشق وحمص وحماة وحلب “المرافئ الصحراوية” مقابل المرافئ البحرية صور وصيدا وبيروت وطرابلس. النظام السوري بحصيلة الحرب يحتفظ بمعظم المرافئ الصحراوية ويقيم سدا عسكريا على حدود الصحراء.
هل يتغيّر هذا المشهد: الأرجح أن على اللبنانيين تحضير أنفسهم لتعامل طويل معه مثلما عوّدوا أنفسٓهم على ما كان يسمّى “المنطقة الشرقية” خلال الحرب الأهلية اللبنانية والتي استمرت خمسة عشر عاما.