ولدي الحبيب،
للسنة الثانية على التوالي تترك بيتك لتتابع دراستك في الخارج. للسنة الثانية على التوالي أسمعك تقول: “إذا كنتُ محظوظاً فلن أعود الى هذه البلاد”. أعترف أني، كل مرة، كنتُ أتبادل هذا الكلام معك، بحرقة، ولكن بصدق.
لماذا تراكَ تعود، وقد أمضيتَ في لبنان شهرين صيفيين، أحرقا أعصابكَ بين انقطاعات الكهرباء وشحيح المياه وحوادث عرسال وانسداد الأفق السياسي والخوف على المصير؟
لماذا تراكَ تعود، في حين أن كلّ ما ينتظرك هنا، لا يعدكَ إلاّ بإهدار طاقاتك والاستهتار بذكائك وتجاهل قدراتك؟
لماذا تراكَ تعود، وأنتَ لا تجد في أحدٍ من هؤلاء الذين يتعاطون الشأن العام، خيراً يُرجى للبلاد وللمواطنين فيها؟
لماذا تراكَ تعود، وأنتَ الذي لا تقبل بأن ينتقص أحدٌ من هيبة القانون، تعاين الانتهاكات الفظيعة لهذا القانون على أيدي المسؤولين الصغار والكبار على السواء؟
لماذا تراكَ تعود، وأنتَ لا تتجاسر أن تقود سيارتكَ، خوفاً من أن تكون فريسة من فرائس كابوس السير اليومي؟
لماذا تراكَ تعود، وأنتَ تشاهد بأمّ عينيكَ أرتال العاطلين عن العمل من الشباب، المنتظرين أمام السفارات، فرصة الحصول على فيزا، أو على إجازة عمل في الخارج؟
لقد قلتَ لي وأنا أودّعكَ في المطار، إنكَ تتمنى أن يأتي يومٌ ترانا فيه جميعنا، وقد انضممنا إليكَ حيث أنتَ.
لم أشأ أن أجادلكَ في هذا الشأن، لأقنعكَ بعكسه، وأنتَ مسافرٌ إلى حيث تواصل جهادكَ الجامعي والعلمي بحثاً عن مستقبل كريم.
أنا نفسي، صرتُ شبه مقتنعة بانعدام الأمل، بسبب اليأس المعربِد الذي يجتاح كلّ شيء، وبسبب العراقيل الهائلة التي تنتصب يومياً في وجوه الذين يحاولون أن يزرعوا وردةً في هذه الصحراء اللبنانية العقيمة!
لكني، يا بنيّ، لا أريد أن أصدّق أنكَ لن تعود. وأنكَ ستشيّد لحياتكَ وطناً آخر، تحت سماء أخرى.
لا أريد أن أصدّق أني يائسة.
لا أريد أن أصدّق أن جيلكَ لن يستطيع أن يفعل شيئاً يكسر جبروت هذا الأمر الواقع.
لا أريد أن أصدّق أن هذا البلد الذي أحببتَ عيشَ طفولتكَ وأوائل شبابكَ فيه، لا يتسع لأحلامكَ وأفكاركَ وأخلاقكَ وقيمكَ.
هل تعرف لماذا لا أريد أن أصدّق؟ لسببٍ جوهري لا علاقة له بالعاطفة الهشة حيال الأوطان.
فأنا أريد لكَ أن لا تيأس مطلقاً. وأن تقول لنفسكَ إنكَ إذا صممتَ على شيء، فأنتَ قادرٌ على تحقيقه.
أريد لكَ أن يكون رأسكَ وطناً للأمل. سلامي إليك.