IMLebanon

انتخابات الآخرين على أرضنا

من المفارقات المضحكة المبكية، ان يكون لبنان احتضن أخيراً احتفالات «الاعراس الديموقراطية» في المنطقة فيما دخل هو في فراغ موقع الرئاسة الأولى، ويخضع في تسيير شؤونه لحــــكومة موقتة ولدت بشق الأنفس، وبرلمـــان فاقد الشرعية، مدّد لنفسه من دون أي اعتبار للآليات الدســـتورية أو العملية الديـــموقراطية الــتي يتــغنى بها هذا البلد منذ نشأته.

وإذا كانت أجيال بكاملها نشأت على معزوفة «حرب الآخرين على أرضنا»، لرفع المسؤوليات وإبعاد شبح المحاسبة عمن ورط البلاد بسنوات من الحرب الطاحنة، ها نحن اليوم نشهد في زمن السلم الذي يرعاه أمراء الحرب أنفسهم، على «انتخابات الآخرين على أرضنا»، مع فارق أننا الآن متفرجون صامتون.

ومن صور لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي اجتاحت طريق المطار والشوارع المحاذية للضاحية الجنوبية، إلى صور للمرشح الرئاسي في سورية بشار الأسد لم يكتف واضعوها بالجدران وأعمدة الكهرباء، بل جالوا بها الطرقات في مواكب سيّارة، وصولاً الى وسائل إعلام محلية خاضت بحماسة حملة المرشح المصري عبدالفتاح السيسي، كأنها تُجرى في أحد أحياء بيروت، مشاهد توحي بأن جزءاً غير قليل من اللبنانيين يعيش حياة سياسية كاملة بـ «الوكالة» كما سبق لهم أن خاضوا معارك بالوكالة أيضاً. وهم إذ ذاك، منقطعون تماماً، عن أي همّ مشترك قد يجمعهم ببقية مواطنيهم بحيث تكرس اغتراب الجماعات عن بعضها البعض، وبات مفهوماً ربما بحث كل منها عن خلاصها الذاتي.

هكذا يبدو سد الفراغ الرئاسي مطلباً مسيحياً بامتياز كأنه مجرد منصب طــــائفي، وليس حاجة وطنية مشتركة وملــحّة. فمن المتضرر (معنوياً أو فعلياً) مـــن غياب الرئيس طالما أن الأعمال تسير كالمــعتاد ووفق رغبة الأقوى؟ هذه الفجوة الداخلية، إن كانت فجوة، يعوضها بمعنى ما بقاء بشار الأسد في السلطة وتفويضه لبنان كاملاً لـ «حزب الله»، فيما القوى السنّية أضعف من أن تفرض شروطها على حلفائها المسيحيين قبل غيرهم.

والأمر ينسحب على مسألة الانتخابات التشريعية التي يبدو أن عدم إجرائها لم يستفز أحداً إلا بعض التجمعات المدنية الهامشية، التي مُنعت من تنظيم تظاهرات او وقفات احتجاجية ولم تنجح كثيراً في استقطاب الشارع. ولعل اللافت كان انتشار بعض الصور للرئيس الراحل فؤاد شهاب، في مناطق مختلطة طائفياً واجتماعياً، تطالب به رئيساً. وبمقدار ما هي مسلية تلك الصور، إلا أنها تنذر بدورها بأن شريحة من اللبنانيين الراغبين بعودة الدولة القوية ومؤسساتها، وهو الارث الحقيقي للحقبة الشهابية، مستعدون للتغاضي عن مساوئ تلك الحقبة نفسها التي طبعها حكم العسكر والاستخبارات. وكأن ثمة من دجّنهم أيضاً فباتوا يقبلون بمعادلة «الحرية مقابل الامن» التي انتفضت عليها الشعوب العربية من حولهم قبل 3 سنوات.

وجاءت الانتخابات السورية الأخيرة، والتي اجتاحت معها كلمة «عراضة» اللغة اليومية ولغة الإعلام على السواء، جاءت بمثابة الصفعة المدوية على وجه أول الداعمين للثورة في لبنان، أي فريق 14 آذار. فسارعت الامانة العامة الى إصدار بيان يدعو الى طرد كل سوري انتخب على الاراضي اللبنانية بذريعة أنه موالٍ لنظام الأسد، ويفترض أنه لا يخشى العودة الى بلده. وصحيح أن في ذلك امتصاصاً لغضب الشارع واستباقاً لأي ردود فعل عنفية كان جمهورهم المحتقن على أهبة الاستعداد لها، لكنه في المقابل خطاب سبق أن اعتمده فريق 8 آذار حيال اللاجئين أنفسهم، داعياً الى عدم استقبالهم. فلمَ يحق اتخاذ موقف انساني على خلفية سياسية هنا ولا يحق هناك؟

الحال أن لبنان اليوم بلد متخبط ومستباح أكثر من اي وقت مضى، لا من سلطة خارجية بمقدار ما هي طبقته السياسية بجميع أطيافها. ولا نعلم حقيقة إن كان غير ذلك في زمن ما، فتلك التركيبة الطائفية والمحاصصة السياسية التي استقرت عليها الأمور منذ عهد الاستقلال، وحمت لبنان من الانقلابات العسكرية التي عصفت ببلدان المنطقة، أرست في المقابل ولاءات ووصايات متنوعة من عبدالناصر الى أبو عمار وموسى الصدر وحافظ الأسد وصولاً الى أم حنون لم نرغب في فطامها لنا، مات يجعل من المستغرب ان يكون الوضع على غير ما هو عليه اليوم.

فكأن ثمة حاجة دفينة فينا الى الوصاية أياً كان مصدرها، عسكرية ام سياسية، اسلامية أم غربية. هي حاجة تسهل علينا لوم الآخرين على خيارات لا نجرؤ على اتخاذها، فتبقى السياسة بالوكالة لعبتنا المحببة التي نتقن شروطها. وهي نفسها التي تجعل من الفراغ الرئاسي اليوم أقصى ما يمكن اللبنانيين ان يطمحوا اليه، وترفاً لن يناله هؤلاء المشاركون في «الاعراس الديموقراطية» من حولهم.