على كل الجبهات وفي مختلف الميادين، كان اللهاث الإيراني المحموم عالي الفحيح، هناك كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق للإعلان عن تأسيس «حزب الله» السوري، بما يستلزم ذلك من تجهيز البنية اللوجستية الكاملة لإخراج هذا الكيان إلى حيز الوجود المشرقي، أما على الجبهة السياسية فكانت إيران أم العرس في عرس بشار الأسد « الديمقراطي»، تكلفت إخراج المناسبة بأحسن الشروط، من عقد مؤتمر لـ«أصدقاء النظام» إلى إحضار برلمانيين من عدة دول للمشاركة في «مراقبة» عملية «الانتخاب»، رغم أن تلك الدول لم يعرف عنها سابقاً ممارستها لأي شكل من أشكال الديمقراطية!
لم يعد هذا السلوك مثيراً للاستغراب، فقد بات معلوماً مدى الاندماج العضوي للملف السوري في إطار الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، غير أن ما هو جدير بالاهتمام، والأمر الذي يستحق دراسته بشكل دقيق، وتالياً تظهير استراتيجية مواجهة حقيقية له، هو ما تخطط إيران للقيام به في سورية في المرحلة المقبلة، واستناداً إلى واقعة إعادة تنخيب بشار لولاية جديدة مدتها سبع سنوات، ذلك أن طهران المتعجلة ترسيخ هذا المعطى في الواقع السوري تفعل ذلك بوعي استراتيجي بعيد المدى، وفي سبيل تحقيق أهداف خطيرة، يتوقع البعض أن تبدأ ملامحها بالظهور بعد اليوم الأول لإعادة تنخيب عميلها وتثبيت كرسيه في السلطة.
عبر سيل من التصريحات، حاولت إيران تعمية المشهد السياسي في سورية، وذلك من خلال محاولتها انتخابات بشار الأسد قائمة على مبادئ ديمقراطية حقيقية وبالتالي فهي تصلح لأن تكون أساساً لحل الإشكالية الحاصلة في سورية بين الشعب والنظام لإنهاء الأزمة، انطلاقاً من أكذوبة أن الشعب اختار من يحكمه وبالتالي فإن الحل يجب أن يأتي تحت سقف هذا الواقع ومنسجماً مع طبيعته، أما آليات الحل، وفق هذه الرؤية فهي تقتصر على الطريقة التي ابتدعتها إيران ونفذها نظام بشار الأسد في بعض المناطق، والتي تقوم على آلية المصالحات في بعض المناطق والمدن وتبادل المعتقلين والأسرى، وإخراج المقاتلين من بعض المناطق إلى مناطق أخرى غالباً في الأرياف المعزولة، والهدف من وراء ذلك استقرار المدن وخطوط المواصلات والإمداد لجبهات إيران في سورية، وعزل المقاتلين في مناطق محصورة يسهل الانقضاض عليها وقضمها في مراحل سابقة، بما يتوافق مع الاستراتيجية المرحلية التي تشتغل عليها إيران في سورية والقائمة على مبدأ القضم البطيء للمناطق وللثورة أيضاً.
هذه الاستراتيجية تهدف بالدرجة الأولى إلى تقليص خيارات السوريين إلى أبعد الحدود، بل إنها تنطوي على إعلان هزيمة واضح، ذلك أنها تحيل المشكلة برمتها إلى مجرد مسألة مطلبية تتعلق ببعض الخدمات، وتحولهم في الآن نفسه إلى حراس لمشروع إيران الأكبر في المنطقة وشهود زور، في مقابل ذلك توسيع هوامش المناورة والتحرك لدى بشار الأسد وشرعنة كافة إجراءاته، السابقة واللاحقة، بحق السوريين، بما فيها إكماله لعمليات التطهير العرقي وإعادة صياغة الواقع الديمغرافي في سورية بهندسة جديدة تتوافق مع المشروع الإيراني للمنطقة، والذي لم يعد خافياً على أحد من حيث تهميش الأغلبية السكانية ودفعها إلى اليأس والرحيل، وذلك بعد ان يجري هندسة جغرافية التوزع السوري، بحيث تتحول حواضر المكون السني في سورية إلى ما يشبه معازل محاصرة أمنياً ومفككة جغرافياً، إضافة إلى افتقادها لمقومات الحياة وإمكانية ممارسة نشاطات اقتصادية منتجة بداخلها، حيث تؤكد الكثير من التقارير أنه يجري نقل الفعالية الاقتصادية الى أماكن جديدة بحجة عدم صلاحية الأماكن السابقة للإنتاج بسبب عدم توفر البنية التحتية وعدم توفر الأمان مستقبلاً، كما عملت إيران على تظهير طبقة جديدة من رجال الاعمال الذين سيتحكمون بالعملية الاقتصادية مستقبلاً وبطبيعة الإنتاج برمته، ونمط الحياة الاقتصادية وأماكن الإنتاج.
ليس لذلك سوى معنى واحد، تستعجل إيران تثبيت الوضع السوري على معطياته الراهنية، لمحاولة تعويمه كحالة ناجزة وأفضل الممكن، ثم العمل على تسويق هذه الحالة وإسباغ شرعية حقيقة تحت عنوان الأمر الواقع والممكن، وفي هذا تتويج لما تعتقده طهران انتصارها الحقيقي في الملف السوري، ثم بعد ذلك العمل على إتمام مشروعها واستكمال هندسة المنطقة الواقعة تحت ظلال سيوفها من البصرة شرقاً حتى الناقورة غرباً، وذلك في ترجمة استراتيجية لادعاءاتها بأن حدودها الغربية باتت على شواطئ البحر الأبيض المتوسط!
بالتطبيق العملي لهذا التفكير الاستراتيجي الإيراني على خريطة المشهد السوري، فإن طهران بصدد تطوير استراتيجيتها الهجومية على سورية، وذلك من خلال محورين خطيرين، هيأت الأرضية المناسبة لها في الفترة السابقة:
المحور الأول: نزع أي صفة سورية عن سياسة البلد، وتحويل بشار الأسد وأجهزته إلى مجرد واجهات ليس لها سوى صفات فخرية، ذلك أن تسيير شؤون الإقليم السوري جرى إحالتها إلى قيادات إيرانية تتعامل مباشرة مع الأطراف السورية، حيث تشير التوجهات إلى نية إيران تظهير قيادات تابعة لها في مختلف المكونات السورية، بحيث تظهر إيران وكأنها تدير الصراع بين تلك المكونات وتعمل على ضبطه، وبهذه الصيغة يتحول نظام بشار الأسد إلى طرف من ضمن الأطراف، بعدما أنجزت إيران اختراق الدوائر المحيطة به وجردته من أوراق قوته.
المحور الثاني: تأمين تموضع جديد للميليشيات التابعة لها على الحدود الإسرائيلية، في الشريط الحدودي مع الجولان، وتأمين طرق تواصله مع مناطق لبنانية يسيطر عليها حليفها «حزب الله» وذلك بهدف إثبات حضورها الإقليمي ودورها في مختلف الترتيبات المستقبلية.
بالحسابات الإيرانية، ما بعد مرحلة تنخيب بشار الأسد، يتعين كشف الأوراق كاملة، اذ لم يعد ثمة حاجة للتخفي بتقيات معينة، وعلى العالم أن يتعاطى بإيجابية مع هذا الأمر الواقع.