في الشهر الأخير لمعركة أزمة دار الفتوى، ارتفع منسوب التصعيد عند كلّ الأطراف. التصعيد المرتقب الأكبر هو دعوة رئيس الحكومة تمّام سلام إلى انتخابات مفتٍ للجمهورية بعد أن دعا المدير العام للأوقاف الإسلاميّة الشيخ هشام خليفة إلى انتخاب مفتٍ في 31 آب.
وبعد أكثر من شهر على المدّ والجزر، اجتمع الرؤساء تمام سلام ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة أمس الأوّل لاتخاذ موقف بشأن أزمة «الدار». يردّد البعض أنّ الرؤساء الثلاثة اتفقوا أن يعلن سلام قريباً دعوته لإجراء الانتخابات في النصف الأوّل من شهر آب، فيما يرجّح أن يكون الموعد هو الأحد في 10 آب.
وإذا كان أمر انتخاب مفتيين صار قريباً في العلن، فهذا لا يعني أنه «الحلّ الأخير»، إذ أنّ المفاوضات أيضاً «في عزّها»، والتي كان آخرها مبادرة عربيّة لانتخاب مفتٍ توافقي بالتزكية بدأت في 24 حزيران الماضي.
ولهذا الأمر، قام وسيط عربي بجسّ نبض الدول الثلاث المعنيّة بشأن دار الفتوى، ورعى لقاءات جمعت ممثلاً عن قبّاني وآخر عن رؤساء الحكومات و«تيار المستقبل» في إحدى السفارات العربية في بيروت، للوصول إلى حلّ شامل للأزمة.
وبعد العديد من اللقاءات، تمّ التوافق بين الطرفين على الكثير من النقاط العالقة، وأهمّها: انتخاب مفتٍ لمرحلة انتقالية لا تتعدّى ولايته الخمس سنوات، وحلّ المجلسين الشرعيين القائمين وانتخاب مجلس جديد تكون مهمّته تطوير وتحديث أنظمة مؤسسات دار الفتوى، إضافةً إلى تراجع الطرفين عن الدعاوى القضائية المرفوعة من قبلهما، على أن يعطى للمفتي قباني بعد انتهاء ولايته في 15 أيلول دوراً في «الدار». والأهم، أنه تمّ الاتفاق على لائحة بمواصفات المفتي الجديد ويؤكّد عليها الباقون، وهي تتضمّن أن يكون: «عالماً، حسن السيرة وليس عليه أي ملفات سابقة على السيرة الذاتية، وسطياً معتدلاً يجسّد الفكر الإٍسلامي بالتسامح والحوار، يعمل على الحفاظ على دار الفتوى كمرجعية وطنية إسلاميّة بعيداً عن الصراعات السياسية، ملتزماً بالاتفاق الذي سيتمّ التوصل إليه، ملتزماً بتحديث وتطوير كامل المؤسسات التابعة لدار الفتوى».
وبالرغم من التقدّم الملحوظ في المبادرة، فإنها اصطدمت باسم مفتي الجمهوريّة الجديد. فقد وضع على طاولة المتحاورين 6 أسماء هم القضاة المشايخ: محمد بوتاري، عامر بوتاري، أحمد شميطلي، وصلاح الدين فخري. واقترح البعض استبعاد اسمي رئيس المحكمة الشرعية السنية العليا القاضي الشيخ عبد اللطيف دريان ومدير الأوقاف الشيخ هشام خليفة، على اعتبار أنهما اسمان استفزازيان. غير أن «المستقبل» رفض الفكرة من أساسها، مؤكّداً أنه لن يقبل إلا بدريان.
حينها، شعر فريق المفتي أنّه خُدِع بطرح لائحة من الأسماء فيما «السنيورة مصرّ على دريان الذي لا يستوفي الشروط التي تم الاتفاق عليها»، وبقي على رفضه للاسم المطروح من قبل ممثل «المستقبل». فتدخّل الوسيط العربي، وأكّد أنّ رئيس المحكمة الشرعية السنية العليا مقبول من قبل جميع الدول المؤثرّة، لا سيّما السعودية وسوريا، كما أنّ الأحزاب الداخليّة الفاعلة لم تضع «فيتو» على اسمه، بما فيها «8 آذار»، ملمّحاً إلى أنّه قام باجتماعات لإثارة الأمر مع السفير السوري و«حزب الله».
حتى الساعة، يؤكّد المعنيون أن الوساطة العربيّة مستمرّة ولم تتوقف، بالرغم من الخلاف القائم حول اسم دريان. في حين ينتظر البعض أن يقدم فريق المفتي مفاجآت قريبة لم يكشف عنها بعد.
في المقابل، يعتبر آخرون أنّ الساعات الأخيرة هي التي تحسم اسم المفتي الجديد، مشيرين إلى أنّ هناك أسماء توافقية ما زالت تحت الطاولة ولن تخرج إلى العلن قريباً حتى لا يتمّ إحراقها.
وهذا يعني أن وصول دريان إلى «عائشة بكّار» ليس حتمياً. فالرجل غير مقبول من بعض القوى العلمائيّة، و«هيئة علماء المسلمين» نموذجاً، وهي أعلنت بالأمس عن «انتفاضتها» التي تحمل عنواناً وحيداً: «لا لدريان». لم تقلها الهيئة، التي اجتمعت في فندق «رامادا» بحضور حوالي 100 شيخ وقاضٍ، ولكنّ الإشارة كانت واضحة كـ«عين الشمس»، لا سيّما في اشتراطهم مواصفات معيّنة، غالبيّتها لا تنطبق على مرشّح «المستقبل».
وهذه المجابهة لن تقف عند حدود الكلام، بل سيذهب أعضاء الهيئة إلى «انتفاضة حقيقية»، إذ أنّهم أكدوا في بيانهم أنّ «العلماء يرفضون أن يُفرض عليهم مفتٍ جديد للجمهوريّة لا يتّصف بالصفات المقرّرة مشكوك بدينه وأمانته، وهم يعلنون صراحة أنّ محاولة كهذه ستضطرهم إلى التمرّد على قراراته وما سيصدر عنه من تعليمات أو توجيهات، بالإضافة إلى مجابهته بكل الوسائل المشروعة حتى إسقاطه».
كما أكّد أعضاء «الهيئة» أنّ «العلماء هم أصحاب الكلمة الوازنة باختيار مفتي الجمهورية الجديد»، مشيرين إلى أنّ «أيّ مرشّح للإفتاء يدافع عن تواصله مع النظام السوري المجرم ويبرّر زيارته بهدف نيل بركته لمنصب الإفتاء لهو مرشّح قد بدأ مسيرته بالاستخفاف بدماء المسلمين وباع مبادئه..».
بعض أعضاء «الهيئة» يعتبرون أنّ «المشكلة لم تعد مع مفتي الجمهورية (كما كانت منذ بضعة أشهر)، بل هي مع فؤاد السنيورة حصراً». يقولون إن السنيورة «يريد مفتياً مطواعاً، ودريان هو أفضلهم لذلك». هم يعيبون عليه أنّه نزل عنذ رغبة السنيورة وغيره من سياسيي «المستقبل» في ثلاثة استحقاقات هي «تعديل قانون الحضانة، وقانون العنف الأسري، ورفضه إلقاء محاضرة في إحدى المناطق لتأكيد رفضه الزواج المدني»، إضافة إلى العديد من التجاوزات الحاصلة في المحاكم الشرعيّة.
هذا ليس كلّ ما في «جعبة» أعضاء «الهيئة»، إذ أنهم يردّدون أنّ دريان ليس مقرباً من «التيار الأزرق» فحسب، بل عمل في الآونة الأخيرة على فتح خطوط تواصل مع الجانب السوري، فزار السفير السوري ثم قام بزيارة إلى سوريا في موكب قاضي سابق في المحكمة الجعفرية، وزار هناك مفتي سوريا أحمد بدر الدين حسّون وأحد السياسيين. هم لا يملكون أدلّة على حصول هذه الزيارة، ولكن مشهد دريان يتناول الإفطار في منزل رئيس حزب «الاتحاد» عبد الرحيم مراد، أمس، كافية لصوغ «قرار ظني» بعلاقة رئيس المحاكم بـ«الشقيقة».
ويستغرب بعض أعضاء «الهيئة» يريد خوض معركة لصالح دريان، في حين أن هناك الكثير من الأسماء البيروتيّة المطروحة والمقبولة بين العلماء والمشايخ، وهم القضاة المشايخ: محمد بوتاري، أحمد شميطلي، عبد الرحمن الحلو، عبد الرحمن المغربي، وأحمد درويش الكردي.
يؤكّد أعضاء «الهيئة» أنهم لن يسمحوا لدريان بالوصول إلى «الدار»، تماماً كما لن يسمحوا باقتحام دار الفتوى بواسطة القوى الأمنية «لأننا سنحمي دارنا ولن نبخل عليها بدمائنا»، مشددين عل أّنهم لن يشاركوا في الانتخابات التي سيدعو إليها رئيس الحكومة في آب للشوائب القانونية التي تعتريها، غير أنهم لا يملكون جواباً شافياً عما إذا كانوا سيقاطعون «الآبيْن» (10 و30 آب).
وأعلنوا عن مبادرتهم الجديدة التي تقوم على: طرح أسماء عدد من علماء بيروت المتصفين بالصفات المطلوبة، ومن ثمّ عرض ذلك على كلا الطرفين للتوافق على أحد الأسماء ليفوز لاحقاً بالتزكية، وفي حال تعذّر ذلك الآن يتمّ تأجيل انتخابات مفتي الجمهوريّة ستّة أشهر يقوم خلالها أمين الفتوى بمهام الإفتاء، مهدّدين بـ«فضح كلّ من يثبت تورّطه في رفض مبادرتهم وإحداث شرخ في الطائفة السنيّة، أو تفريغ دار الفتوى من دورها الديني والوطني».
وكان رئيس «الهيئة» مالك جديدة قد زار برفقة وفد من العلماء رئيس الحكومة تمام سلام، الذي أشار إلى «أنّنا ما زلنا نسعى للوصول إلى مخرج لائق (موضوع الإفتاء)، وإلاّ فإننا سنكون مضطرين لاتخاذ الإجراءات اللازمة التي تحفظ مقام الإفتاء وتصون وحدة المسلمين السنّة».
وشدّد على أن «الحكومة حاسمة في قرارها بسط سلطة القانون على جميع الأراضي اللبنانية من دون تمييز بين منطقة وأخرى أو بين فئة من الللبنانيين وفئة أخرى».